عصام الجردي
يأتي مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون الارهاب دانيال غلازر الى بيروت في النصف الثاني من أيار الجاري. يحمل المسؤول الأميركي ملف تبييض الأموال وملف الخزانة الأميركية ضد “حزب الله” المتهم بتبييض أموال. سيطلع غلازر على التعاميم الأخيرة التي أصدرها مصرف لبنان وتطلب الى المصارف والمؤسسات المالية الامتثال للقوانين الأميركية ذات الصلة بمنع التعاطي مع حسابات تتتعلق بالحزب أفراداً ومؤسسات، وقفل حساباتهم حال وجودها. بالاضافة الى الاجراءات المتعلقة بقانون الامتثال الضريبي “فاتكا”.
يعتقد أحدنا لوهلة أولى، أن تلك الملفات المعقدة مالياً وسياسياً وقانونياً تتعهدها دولة صلبة تعمل فيها مؤسسات دستورية لإنفاذ حكم القانون. ولنا أن نتخيل دولة هشّة كلبنان لا تشي بأي معلم من حكم القانون، بمؤسسات دستورية فارغة و/أو عاطلة من العمل، في وسعها التصدي لهذا الكمّ والنوع من الملفات. أكثر من ذلك، فالقوانين المالية والمصرفية اللبنانية فيها الكثير من الثغر كي تمتثل لقوانين وتشريعات دولية في الألفية الثالثة مفروضة على مجتمع الأعمال والمال الدوليين. الارادة السياسية غير موجودة أصلاً. واقتصاد البلد قائم على التحويلات المالية من الخارج تودع قريرة العين في ظل نظام السرية المصرفية الذي أرغمت سويسرا ودول أخرى أقوى من لبنان على تعديله. ولم يبق له أثر سوى في الكيانات والجزر عبر المحيطات. التعديلات التي أدخلت عليه عندنا لا تفي بالحاجة. الادارة الأميركية وخزانتها تعلمان جيداً أن بلداً عشش فيه الفساد السياسي، وعاجزاً عن إقرار موازنة منذ ست عشرة سنة، وعن تداول السلطة وانتخاب رئيس للجمهورية، والمعرض للهزات الجيوسياسية في اقليم شديدة التوتر، لا يمكن التهاون معه باستخدام النظام المالي الأميركي والدولي معبراً لعملياته المالية. ولبنان خارج هذا النظام مقضيٌ عليه.
كل نفوذ “حزب الله” في القرار السياسي اللبناني لم يمنع مصرف لبنان من اعتماد تعاميم صريحة بالاسم تتبنى القانون الأميركي وأنظمته التطبيقية المتعلقة بالعقوبات المالية والمصرفية عليه. وفي معادلة القرار السياسي قد يكون من المبالغة القول بأن الحزب يفرض ما يريد. لكن ليس من المبالغة أن الحزب يعطل ما لا يريده. بيد أن الأمر أسقط في يده هذه المرة. وبحسب معلوماتنا لم يبت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمجلس المركزي للمصرف تلك التعاميم، قبل مشاورات مكثفة مع رئيس الحكومة وقيادة الحزب. يعلم “حزب الله” أن المسألة لا تتعلق بـ”القدرات الصاروخية”. بل بنظام مالي صرف، فيه من القوة ما يكفي لتعطيل تلك القدرات ويزيد. ويعلم أيضاً أنه لو انتقلت المجابهة مع ذلك النظام الى مجتمع الحزب، ولديه مصالح مالية واستثمارية كبيرة جداً في لبنان والخارج، لاخترب ذلك المجتمع وقطاعه المصرفي واقتصاد لبنان. وما في اليد حيلة. لذلك طلب تعميم مصرف لبنان (الرقم 137) الى المصارف وجوب إخطارها “هيئة التحقيق الخاصة” في مصرف لبنان بالأسباب التي اعتمدت لتجميد الحسابات المصرفية لأحد عملائها أو إقفالها. أو في حال رفضت المصارف فتح حساب جديد لأحد عملائها والتعامل معه. هل انتهت القضية عند هذا الحد؟ لا مؤكدة. وسنتناول جانبين:
اولاً موقف “حزب الله” السياسي معلن وواضح. مع استمرار تورطه المباشر في الحرب السورية لحماية النظام. الأمر يحتاج الى مزيد من المال. لو سلّمنا جدلاً أن ايران التي تدير مشروعها السياسي في المنطقة، والذي يجهر “حزب الله” بأنه جزء منه، تتوفر لها قدرات مالية لمدّ الحزب بها، لكنها نفسها لم تتفلت بعد من العقوبات المصرفية رغم الاتفاق على الملف النووي. ويدفعنا المنطق الى الاعتقاد في أن ايران ليست مصدراً وحيداً لتمويل الحزب، بل ومن مصادر مؤسسية وأخرى مختلفة. هذا لا يغير أساس القضية مع الخزانة الأميركية التي تتهم كيانات مالية واستثمارية خارجية بتييض أموال لمصلحة “حزب الله” أو له حصة منها. المصرف اللبناني الكندي أقفل وبيع للسبب نفسه. اتفق مصرف لبنان مع الخزانة الأميركية على “ممر آمن وتحت الرقابة” لنحو 200 حساب دائن ومدين كانت في اللبناني الكندي. خرج معظم تلك الحسابات الى مصارف أخرى كبيرة بترتيب معين أثار حفيظة الأميركيين. وما زالت تلك الحسابات تحت انظارهم. لماذا سمح مصرف لبنان بذلك؟ وأي منفعة ترتجى من نقل الريبة؟
ثانياً: هناك همس في الوسط المصرفي عن سحوبات كبيرة من الودائع لمقربين من الحزب قبل اجراءات مصرف لبنان. ومن بينها لأفراد ومؤسسات ليست على علاقة مالية بالحزب. “السيد غلازر الجزيل الاحترام” على علم بذلك ويهجس لتسقّط وجهة تلك السحوبات. مصادر مصرفية تجزم أن هناك مزيداً من الاجراءات الأميركية في الطريق قد تستهدف لبنان أو علاقات الولايات المتحدة المالية بالخارج. وما على مصرف لبنان سوى اقتفاء أثرها وتنفيذها. الضغوط ستزداد، والبلد يضيق بأزماته. ومصادر التحويلات على أنواعها تجف تدرجاً.
مع اعتبار انعكاسات الحرب في سوريا. منذ سنة 2011 التي سقط فيها المصرف اللبناني الكندي بتهمة تبييض أموال لـ”حزب الله”، وخزين لبنان ينزف من العملات الأجنبية. كان ذلك قبل تراجع أسعار النفط 2014 – 2015. ومستمرون في هذا المنحى. ولا أحد يملك جواباً الى أين. هل يعلم المواطن اللبناني أن وزارة الخزانة الأميركية لم تطلع حتى الساعة مصرف لبنان على تفاصيل قضية اللبناني الكندي. قبل سقوط المصرف بأسبوعين كان هناك وفد لبناني في وزارة الخزانة الأميركية برئاسة سلامة، لم تخطره الخزانة بأي معلومات عن المصرف. بعد اتهام المصرف ألمحت الخزانة الى احتمال جديد أشد وطأة من دون أي تفسير.
دعونا نقول الحقيقة. المال الفاسد يطرد المال النظيف. المصارف اللبنانية في هذه المرحلة مسكونة بهاجس الخطأ غير العمد في كل يوم خشية العقوبات. ربما لندفع ثمن الخطيئة العمد “حين كانت التدفقات النقدية تهطل على لبنان” من دون أي تفسير اقتصادي مقنع. نحتاج الى شفافية الأرقام المالية. وفي بنود ميزان المدفوعات تحديداً الذي يعتمد الموجودات الخارجية الصافية لدى الجهاز المصرفي ومصرف لبنان لبيان وضعيته. حصل مصرف لبنان على الغطاء السياسي لإصدار تعاميمه الأخيرة. لكنه يتصرف منفرداً لتغطية مواقف بعد فوات الأوان. كأن يقول أن هذا المصرف “يلتزم تعاميم مصرف لبنان والقوانين المرعية الاجراء” وسرعان ما يسقط وتبدأ ورشة تحضير زبائن لشرائه خشية امتداد الشرر. هكذا حصل في المصرف اللبناني الكندي. وقبله مصرف المدينة. وهكذا نستدعي قوانين الكونغرس الأميركي واجراءات الخزانة تملى علينا وتطاع.