Site icon IMLebanon

المناصفة “على صوص ونقطة”!

 

 

كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:

مرّة أخرى، وحتى العام 2022، وإذا كُتِب للمجلس البلدي المنتخب في بيروت أن يعيش بسلام، فإنّ المناصفة فيه بين المسيحيين والمسلمين مكفولة. وبعد ذلك، لكلّ حادث حديث.مناصفة بيروت البلدية أرادها الرئيس سعد الحريري اليوم. فهو الذي وضع كلّ ثقله لمنع خردقة «لائحة البيارتة»، لأنه يعرف جيداً أنّ المرشحين المسيحيين في اللائحة هم المرشحون للسقوط أولاً. والتشديد هذه المرّة على إنزال اللائحة في الصناديق «زيّ ما هيي» له أهمية استثنائية، لأنه السبيل الوحيد إلى المناصفة.

فالحريري نفسه ما زال في وضعية اختبار للمزاج السنّي في بيروت. وهو عاد إلى لبنان منذ فترة قصيرة، وما زال يستطلع ما طرأ من تحوُّلات على مزاج الجمهور «المستقبلي»، والجمهور السنّي عموماً، وإلى أيّ حدّ ما زال الرهان على «الاعتدال اللبناني» ممكناً في ظلّ الفوران المذهبي والطائفي في الشرق الأوسط.

سَمِع الحريري همساً عشية انتخابات بيروت مفاده أنّ التوزّع السكاني في العاصمة ليس «متناصفاً» عملياً، بل هو لمصلحة السنّة. وبيروت هي العاصمة، لكنها مدينة سنّية أيضاً. فلماذا الإصرار على المناصفة في مجلسها البلدي؟

الحريري أقفل مسامعه تماماً في وجه هذا الخطاب، وأصرّ على لائحة جامعة شاملة سياسياً و»متناصفة» طائفياً، وتحرَّك الرجل دينامياً في بيروت كلها طالباً الدعم للائحة بلا تشطيب.

لقد نجت لائحة بيروت «من خروم الشبك»، ليس من التشطيب لأنّ المسلمين والمسيحيين في اللائحة جاءت أصواتهم متقاربة، بل من المواجهة التي خاضتها اللائحة مع «بيروت مدينتي». وللمرّة الأولى، لم تكن المنافسة البلدية بين لائحتين تمثّلان خطين سياسيين متصارعين، بل كان السياسيون معاً في وجه «المجتمع المدني».

والنتيجة كانت مذهلة، ويمكن البناء عليها لاستنتاج الكثير: في حدود الـ44 ألف صوت لـ«لائحة البيارتة» مقابل نحو 31 ألف صوت لـ«بيروت مدينتي». أي إنّ الفارق الإجمالي هو في حدود الـ13 ألف صوت، علماً بأنّ ثلثي المسيحيين المقترعين في دائرة بيروت الأولى صوَّتوا لـ«بيروت مدينتي»، المتوازنة أيضاً طائفياً، لا للائحة الأحزاب والسياسيين.

المعدل العام للاقتراع كان هزيلاً: 20%. والذين أهملوا الانتخابات أو قاطعوها أو استنكفوا عن التصويت لأيّ سبب يمكن وضعهم في خانتين:

1 – خانة الذين سلّموا بالنتيجة مسبقاً، أي بانتصار لائحة الحريري، ولذلك هم لم يروا ضرورة للمشاركة.

2 – خانة الحال الاعتراضية، أي الرافضة للحريري أو للسياسيين عموماً، وهذه الخانة أقرب في موقفها إلى «بيروت مدينتي».

وثمّة مَن يرجِّح غلبة الخانة الثانية، الاعتراضية، على الخانة الأولى ويقول: لو كان السياسيون يمونون على هؤلاء لأنزلوهم إلى صناديق الإقتراع. ولذلك، هو يفترض أنّ غالبية الذين لم يشاركوا يمثِّلون اتجاهاً اعتراضياً.

وربما، لو شارك هؤلاء لرجَّحوا التوازن أكثر لمصلحتها لا لمصلحة اللائحة الحريرية. وعادةً، عندما يجري خلط التحالفات «تتخردق» اللوائح وتكون النتيجة فوز مرشحين من لوائح مختلفة. لذلك، يجدر التفكير عميقاً: في ظلّ نظام طائفي، بل مذهبي يقوم على الزبائنية، ما الذي يضمن «المناصفة» في أيّ انتخابات مقبلة؟

وفي عبارة أخرى: إذا ضَعُف «المستقبل» سياسياً، أو تنامت الاتجاهات المتطرّفة في داخل الطوائف كلها في المرحلة المقبلة، أي لدى السنّة والشيعة والمسيحيين، مَن سيضمن المناصفة البلدية في بيروت؟

يجدر التأنّي في قراءة الأسباب التي دفعت المسيحيين إلى التصويت للائحة «بيروت مدينتي» أكثر من اللائحة السياسية. وهي كثيرة ومعقّدة. ففيها «القرف المسيحي» من كلّ شيء، والاعتراض على مجلس بيروت السابق، وعلى الحريرية، وعلى القوى والأحزاب المسيحية كلها أو بعضها، وعلى طبيعة تركيب اللائحة، وفيها أيضاً الصراعات «الإنتر مسيحية» و«الإنتر حزبية». ولكن يجدر التفكير في أنّ المسيحيين عموماً وتقليدياً ميّالون أكثر إلى التنوّع، وهؤلاء هم أسرع في المجاهرة بالاعتراض.

في أيّ فرصة لإجراء انتخابات بلدية جديدة في بيروت، لن يكون هناك ما يضمن المناصفة التي جرى حفظها «اصطناعياً» حتى اليوم، بفضل الجهود السياسية.

وإذا كانت هناك حاجة وطنية حيوية لها، فسيكون ضرورياً إما تكريسها في النصّ في العاصمة، استثنائياً، وإما حصر الانتخابات البلدية بنظام اللوائح المقفلة وإما الذهاب إلى اللامركزية البلدية في بيروت. لكنّ أياً من الطروحات الثلاثة ليس مقبولاً. ولذلك فالمناصفة ستبقى في بيروت واقفة «على صوص ونقطة».

وثمّة رأي في بيروت يقول: لماذا يُراد تحقيق المناصفة في بيروت وحدها، وكأنها حالة استثنائية. فالسنّة في بيروت ليسوا مجبرين على مراعاة المناصفة إلى الأبد. وإذا شاءت الظروف أن تزول هذه المناصفة، تحت ظروف معركة انتخابية معيّنة، «فلا حول ولا…».

ويضيف أصحاب هذا الرأي: المناصفة في بيروت ليست إجبارية كالمناصفة في المجلس النيابي أو الحكومة أو مواقع الدرجة الأولى. وهي لا تشبه تكريس الحصرية الطائفية للمسيحيين على مستوى رئيس الجمهورية. وإنّ سنّة بيروت يحافظون على المناصفة «من كرَم أخلاقهم لا أكثر» ولكنّ ذلك ليس واجباً عليهم يلتزمونه إلى الأبد!

ولكن، في النظر إلى المسألة من بعيد، يمكن الاستنتاج أنّ المناصفة في بلدية بيروت شبيهة بـ»المناصفات» في الحكومة والمجلس النيابي، والتي يشكو فيها المسيحيون من سوء التمثيل. وثمّة مَن يسأل: ما معنى المناصفة في مجلس يسيطر عليه بعض القوى السياسية، وهو يتعرّض للاتهام بارتكاب الأخطاء أو التجاوزات، لكنه مدعوم سياسياً ولا أحد يحاسبه؟

في أيّ حال، قصة المسيحيين والمناصفة في لبنان باتت طويلة. فالقوى المسيحية ناقمة على قوانين الانتخاب السابقة حيث البوسطات والمحادل التي يقودها زعماء الطوائف الأخرى والتي يجلس فيها ركاب مسيحيون صامتون ولا يستطيعون أن يتوجّهوا إلى السائق بأيّ طلب، حتى سؤاله عن المحطة التالية! وهكذا، فالمناصفة في المجلس النيابي صُوَرية أساساً ولا قيمة لها، ما دام قرار أحد جناحي المناصفة مرهوناً بالجناح الآخر.

ولأنّ المناصفة الحقيقية، لا الصُوَرية، مفقودة في المجلس النيابي، أي على مستوى التأسيس والتمثيل والتشريع، فكلّ المناصفات الأخرى في الحكومة والمؤسسات تصبح أيضاً صُوَرية أو قابلة للسقوط في أيّ لحظة.

ويصبح الحلّ الحقيقي لمعضلة المناصفة هو الخروج من ذهنية الوصايات الملتبسة إما إلى تحرير البلد من الطائفية تماماً وإما القبول بالشراكة الحقيقية وإحلال منطق القانون والمؤسسات. وهنا تعود الأزمة إلى أساسها: لمَن السيطرة في لبنان؟

سقط التوازن الميثاقي بين المسيحيين والمسلمين واقعياً بعد الطائف، وفي ظلّ سلطة الوصاية السورية، ولم يتم إنقاذه بعد العام 2005 كما كان يفترض المسيحيون. ومع بلوغ الصراع المذهبي، السنّي الشيعي، ذروته في ظلّ الحرب في سوريا، بات كلّ من الطرفين المذهبيين أكثر تشبّثاً بالمكتسبات التي تراكمت له سابقاً، ولا يمكنه التخلّي عنها.

وأما الحجج التي يتشبّث بها كلّ منهما للمضي في نهج الاستئثار فتعود إلى التراجع العام للحضور المسيحي، ديموغرافياً وجغرافياً ونفوذاً في الحكم وتشرذماً للقوى السياسية.

وعندما يرفع قادة السنّة والشيعة عنوان المناصفة، فإنها في أفضل حال تكون مناصفة في الشكل لا في المضمون. والامتحان موجود اليوم على طاولة اللجان، حيث خليط قوانين الانتخاب، ولكن لا يُؤخذ بأيّ من الطروحات المسيحية الكثيرة الهادفة إلى اعتماد قانون انتخاب يمنح المسيحيين تمثيلاً صحيحاً.

في العمق، الزمن الحالي ليس زمن تنازلات طوائفية متبادلة. السنّة والشيعة لا يتنازلون لأنهم يحتاجون إلى المزيد من المكاسب لتحقيق الانتصارات على مستوى المنطقة ككل. وأما المسيحيون فلم يعد عندهم ما يتنازلون عنه. وهكذا، فالمناصفة ستبقى مجرد تعبير عن النّيات. و»إنما الأعمال بالنّيات»!