موسى مهدي
قبيل بدء انعقاد قمة مكافحة الفساد في لندن اليوم الخميس، كشفت الشرطة البريطانية، أمس، عن اعتقالها لشخصين في “حي المال” اللندني يستخدمان سوق لندن المالي للصفقات المستقبلية “إنتر كونتننتال إكسيجينج” في غسيل الأموال لصالح عصابة روسية تعمل ضمن شبكة للجريمة المنظمة واسعة الانتشار، وتمتد شركاتها من موسكو إلى سويسرا وجزر الكاريبي.
وقالت الشرطة البريطانية إنها اعتقلت رجلين وحققت معهما ثم أطلقتهما بضمان مالي، أحدهما وسيط تجاري روسي يعمل في شركة بحي المال وآخر لم تكشف عنه.
وحسب الشرطة، تدور الشبهات حول أن شبكة غسيل الأموال الروسية تضم كذلك شركة نفط روسية وشركات سويسرية توجد مقارها في جزر “فيرجن آيلاندز”.
وهذه الشبكات النشطة التي كشف عنها أمس، هي نقطة من بحر الفساد وغسيل الأموال الذي يطفح في بورصات الغرب الرئيسية الممتدة من لندن إلى نيويورك إلى سنغافورة.
وعبر هذه الأسواق المالية وجزر الأوفشور تتدفق يومياً مئات المليارات من الأموال التي لا يعرف مصدرها أو ملاكها الحقيقيون، ولكن تتحول من مصرف إلى مصرف ومن سوق إلى سوق ويتم المتاجرة بها بشكل شرعي وتحت مسميات وهمية.
وحسب ما كشفت أوراق بنما، فإن كل ما يحتاجه السياسي الفاسد لتسجيل شركة وفتح حساب مصرفي في أية منطقة من مناطق الأفشور هو عنوان بريدي واسم وهمي للشركة.
وبالتالي، فهنالك آمال تعقدها جماعات المجتمع المدني ومنظمة الشفافية الدولية على تبني قمة لندن إجراءات حقيقية لمكافحة الفساد المالي المستشري في العالم، لأنه يكبد العالم أكثر من ترليون دولار.
وتقدر مؤسسة نزاهة التي تكافح الفساد في السعودية الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد العربي بسبب الفساد بحوالي 300 مليار دولار سنوياً.
ويقول محللون إن الكشف عن شبكة غسيل الأموال الروسية أمس يأتي كضربة لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي يستضيف قمة مكافحة الفساد، حيث تواجه حكومته اتهامات واسعة بشأن تقاعسها في محاربة أموال الفساد التي تغسل وتستثمر في حي المال والعقارات البريطانية والتي تقدر قيمتها بأكثر من 200 مليار دولار، وفق تقارير نشرتها سابقاً صحيفة “فاينانشيال تايمز”.
ويحضر قمة اليوم عدد من رؤساء وممثلي دول العالم، على رأسهم وزير الخارجية الأميركي جون كيري، وذلك إضافة إلى ممثلي بعض الشركات الكبرى وقيادات المجتمع المدني واللجان الرياضية والمنظمات الدولية.
وسيلقي الرئيس النيجيري محمد بخاري الخطاب الرئيسي في القمة تحت عنوان “لماذا يجب أن نحارب الفساد معاً”.
وتستهدف قمة لندن اتخاذ خطوات عملية تشترك في وضع قوانينها الحكومات والشركات والدول لمحاربة الفساد المالي بكل أشكاله وعلى رأسه فساد الساسة الذين يسرقون ثروات العالم الثالث ويحولونها إلى حسابات في مصارف غربية ومناطق الأفشور وفساد الشركات التي تستخدم الرشاوى في كسب العقود التجارية، وكذا فساد المصارف وشركات المحاسبة والشركات القانونية التي تحمي الفاسدين وتيسر لهم تمرير أموال الفساد وشركات توظيف الأموال التي لا تتساءل كثيراً حول مصادر الأموال التي تصلها.
ومن المتوقع أن يدور في القمة نقاش واسع حول السبل الكفيلة بمكافحة الفساد المالي يشترك فيه الجميع.
وحسب جدول القمة فإن كلاً من رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم ورئيس منظمة الشفافية الدولية جوزيه يوغاز والكاتبة البريطانية سارة يوغاز ومديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد سيدير النقاش بشأن أفضل السبل لمكافحة الفساد.
وقبيل القمة، قال الرئيس النيجيري، والذي تعرضت بلاده لانتقادات من قبل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، إنه لا يريد من كاميرون اعتذاراً وإنما يريد من حكومته أن تعمل على إعادة الموجودات والأموال التي حولها ساسة نيجيريون سابقون إلى بريطانيا إلى الشعب النيجيري.
وستركز القمة حسب البيانات الصادرة على موقع الحكومة البريطانية على تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية وهي:
أولاً: كشف الفساد بأنواعه وأدواته وتحديد سبل التعامل معه عبر سن القوانين وتشكيل هيئة دولية لمحاربة الفساد المالي
ثانيا: معاقبة الأفراد الفاسدين وعصابات الجريمة المنظمة عبر تشكيل وحدات دولية لملاحقتهم
ثالثاً: اجتثاث ثقافة الفساد أينما وجدت.
لكن يرى خبراء أن الحكومات الغربية تستهدف من هذه القمة زيادة دخلها الضريبي عبر محاصرة الشركات التي تتهرب من دفع الضرائب عبر شركات الواجهة التي تؤسسها في مناطق وجزر الأفشور.
ويرى منتقدون للحكومات الغربية أنها لم تدع لهذه القمة الجزر الرئيسية التي تستخدم في إخفاء الأموال وشركات الواجهة، حيث لم تدع دولة بنما ولا جزر “فيرجن آيلاندز” وكذلك لم تدع لها العديد من جزر أوفشور العالمية.
وهذه الملاحظة التي أبدتها منظمة الشفافية أمس تزرع الشكوك حول جدية قادة العالم الرأسمالي الذين تستفيد أسواقهم من التدفقات المالية الفاسدة في محاربة الفساد المالي.
وفي هذا الصدد، هاجمت منظمة الشفافية العالمية، التي تنشط بكثافة في هذه القمة، أمس الحكومة البريطانية ووصفتها بأنها تيسر السبل للأفراد الفاسدين لغسيل أموالهم في بريطانيا وتوفر لهم سبل الراحة والاستمتاع بأموال الفساد. وقالت إن العديد من الأفراد الفاسدين يعيشون في بريطانيا دون أن يتعرضوا لملاحقة أو عقاب.
ومن بين الثغرات التي ذكرتها المنظمة العالمية في تقريرها حول قصور القوانين البريطانية في مكافحة الفساد:
أولا: السماح بشراء عقارات في بريطانيا عبر شركات واجهة دون معرفة المالك الحقيقي للعقار.
ثانياً: سماح جزر الأفشور التابعة للتاج البريطاني بتأسيس شركات سرية وتخفي أسماء ملاكها.
ثالثاً: الدور الذي يلعبه المحامون وشركات المحاسبة القانونية وشركات توظيف الأموال في تسهيل وتيسير مهام الأفراد المفسدين في إخفاء أموالهم وغسيلها في النظام المصرفي.
رابعاً: النظام القانوني لمكافحة غسيل الأموال في بريطانيا نظام سهل، يمكن لأي محترف أن يتخطاه بيسر وسهولة.
ولكن في مقابل هذه الاتهامات طرحت الحكومة البريطانية خطة متكاملة لمكافحة غسيل الأموال ومكافحة أموال الإرهاب، في نهاية الشهر الماضي، حيث تبنت فيها بعض النقاط التي دعت لها في السابق منظمة الشفافية الدولية ومن المتوقع أن تطرح هذه الخطة في قمة اليوم.
وبخصوص الثغرات البريطانية التي ينفذ من خلالها المفسدون، قالت تقارير بريطانية في سبتمبر/أيلول الماضي إن عقارات لندن تحولت الى “ملاذات آمنة” خلال السنوات الأخيرة، وبات يستخدمها الزعماء الفاسدون والطغاة، إضافة الى عصابات الجريمة المنظمة والمخدرات لإخفاء اموالهم. ويلاحظ أن العديد من طغاة العالم وبطانتهم يملكون مساكن في الاحياء الراقية في لندن تفوق أثمانها أضعاف دخولهم الرسمية في فترات حكمهم.
وبجردة بسيطة يمكن ملاحظ الآتي:
حينما سقط الدكتاتور النيجيري أباشي وتمت ملاحقة الاموال التي سرقها، كانت عقارات لندن أحد الملاذات التي أخفى فيها جزءاً من أمواله. وكذلك الحال حينما أسقطت الثورة المصرية الرئيس حسني مبارك، اتضح أن عائلته تملك مجموعة من الفلل والعقارات الفاخرة، كان أشهرها في منطقة نايتسبريدج الاستراتيجية غربي لندن.
وفي ليبيا، بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، اكتشف أن ابنه سيف الإسلام يملك فيلّا فاخرة في حي هامستيد شمال غربي لندن. وهذه أمثلة ضئيلة من سجل العقارات الفاخرة التي يملكها طغاة العالم وربما عصابات الإجرام والمخدرات في بريطانيا.
وحسبما كشفت سجلات الأراضي والعقارات في بريطانيا، خلال العام الماضي 2015، فإن قيمة الفلل الفاخرة والشقق التي تملكها شركات “أوفشور” في كل من انجلترا وإقليم ويلز تبلغ 122 مليار جنيه استرليني (نحو 207 مليارات دولار).
وهذا الرقم يعادل تقريباً إجمالي ثمن المساكن في حي ويستمنستر وسط لندن وباقي أحياء العاصمة البريطانية.