هارييت أجنيو
في عام 1896، وهو العام الذي كانت تعرض فيه أوبرا “لا بوهيم” للموسيقار بوتشيني لأول مرة في تورينو، تجاوزت الملكة فيكتوريا جدها الملك جورج الثالث باعتبارها صاحب أطول فترة حكم ملكي في المملكة المتحدة، وبدأت شركة الخدمات المهنية برايس ووترهاوس كوبرز PwC – التي كان اسمها في ذلك الحين كوبر براذرز – بتدقيق حسابات بنك باركليز.
في عام 2014، كانت لا تزال برايس ووترهاوس كوبرز مدقق الحسابات لبنك باركليز، عندما أعلن البنك البريطاني أنه يعرض عقد التدقيق في مناقصة للمرة الأولى منذ 120 عاما. هذه الخطوة أثيرت بفعل القوانين التنظيمية الأوروبية الجديدة التي تهدف إلى إحداث تغييرات واسعة في سوق التدقيق في أعقاب الأزمة المالية.
علاقة برايس ووترهاوس كوبرز مع باركليز واحدة من الأمثلة الصارخة على ميل الشركات إلى التمسك بمدققي حساباتها لعدة عقود، لكن هذا يتغير الآن.
بموجب القوانين التنظيمية للاتحاد الأوروبي التي ستدخل حيز التنفيذ في حزيران (يونيو) المقبل – التي وضعت في محاولة لتحسين المنافسة والاختيار في سوق التدقيق – يتعين على الشركات طرح عملية تدقيق حساباتها في مناقصة كل عشر سنوات، وتغيير الشركة المقدمة للخدمة كل 20 سنة على الأقل.
وتأخذ المملكة المتحدة زمام المبادرة. ففي السنوات القليلة الماضية، أثار توقُّع النظام الجديد موجة من مناقصات التدقيق شملت أكثر من نصف الشركات الموجودة في مؤشر فاينانشيال تايمز 100. ووفقا لتقرير صدر الشهر الماضي عن “إي واي” EY، أكثر من شركة واحدة من بين كل خمس شركات تعتقد أن تكاليف تغيير مدقق الحسابات ستشكل ما بين 20 و50 في المائة من رسوم التدقيق السنوي الحالية. وفي الوقت الحالي تجري شركات في مؤشر فاينانشيال تايمز 100، من بينها ريكيت بينكيزر وسنتريكا ورولز رويس، مراجعة لعمليات تفويض تدقيق حساباتها.
والنتيجة هي عالم جديد شجاع من العروض التنافسية، حيث تضخ شركات الخدمات المهنية الأموال في التكنولوجيا في الوقت الذي تحاول فيه الحصول على أعمال التدقيق من الشركات المنافسة. وحتى الآن كانت النتيجة دوامة عمليات تدقيق متبادلة بين الأربعة الكبار – برايس ووترهاوس كوبرز، وديلويت، وإي واي، وكيه بي إم جي – التي تتولى 98 في المائة من أعمال تدقيق الشركات المدرجة على مؤشر فاينانشيال تايمز 350 و95 في المائة من أعمال تدقيق الشركات المدرجة في قائمة فورتشن 500.
أدريان ستون، رئيس تدقيق المملكة المتحدة في “كيه بي إم جي”، يقول: “إن بيئة العطاءات جعلت الناس يكثفون جهودهم من أجل الابتكار”. مثلا، “كيه بي إم جي” الآن في منتصف برنامج استثماري بقيمة مليار دولار في مجال تحليلات البيانات والتكنولوجيات الجديدة.
ويجري إدخال قواعد في الوقت نفسه الذي تهدف فيه جهود منفصلة من قبل مجلس الإبلاغ المالي، وهو جهاز المحاسبة التنظيمي في بريطانيا، إلى تحسين جودة المراجعة والابتكار في مهنة جوانب العمل فيها معرضة لأن تستبدل بأجهزة.
وتسعى الشركات أيضا إلى معالجة مزاعم بأن معايير التدقيق في خطر على الصعيد العالمي، نتيجة لبروز أذرع استشارية تابعة للشركات، التي عادة ما تكون أسرع نموا وأكثر ربحا. ويزعم المنتقدون أن ميزان تحول الأنشطة يمكن أن يهدد جودة مراقب الحسابات واستقلاليتها.
ويقول هايول بول، رئيس تدقيق المملكة المتحدة في “إي واي”: “مهنة المحاسبة وصلت إلى نقطة اللاعودة”. ويضيف: “نحن بحاجة إلى الابتكار، وأن نظل على صلة بذلك في القرن الـ 21”.
خدمات شخصية
وفي مواجهة هذه التحديات، تعمل شركات الخدمات المهنية على تسخير التطورات التكنولوجية.
ويلاحظ جون رافائيل، كبير إداريي الابتكار في شركة ديلويت في نيويورك، أن “أتمتة سير العمل، وتحليل المعطيات، والذكاء الاصطناعي، تعمل على تغيير الكيفية التي يتم بها التدقيق بشكل جذري”.
هذه التغييرات تجعل كثيرا من الأساليب مهجورة وتُبطِل استعمالها، مثل أخذ العينات، التي كان يعتمد عليها مدققو الحسابات على مدى عقود. وهي تهدد أنموذج العمل في هذه الصناعة الذي يعتمد على توظيف جحافل من الخريجين لتولي أعمال إدارية عادية لا تتطلب مهارات. كما أنها تمثل تحديا متزايدا للأجهزة التنظيمية التي تشرف على هذه المهنة.
هذه التغييرات الشاملة في صناعة التدقيق تأتي في وقت لا يزال يسعى فيه الأربعة الكبار إلى التخلص من انتقادات لفشلهم في دق ناقوس الخطر في الفترة التي سبقت الأزمة المالية، حول نماذج الأعمال التي كانت تفرض أعباء مرهقة فوق الحد على المؤسسات المالية. وتعرضنت مصارف، بما فيها “بير ستيرنز” و”ليمان براذرز” و”إتش بي أو إس” للانهيار أو تم إنقاذها من قبل دافعي الضرائب بعد أشهر على حصولها على شهادة من قبل مدققي حساباتها تفيد بأن وضعها المحاسبي كان سليما.
وفاقمت سلسلة من فضائح الشركات منذ بداية الأزمة، بما في ذلك تيسكو وكوينديل وفيفا، الضغوط على مراجعي الحسابات لشحذ خدمتهم.
وأدت عولمة الشركات، إلى جانب التقدم في التكنولوجيا، إلى انفجار في البيانات. ويحاول المدققون الآن أن يلعبوا دورا في ترجمة تلك المعلومات إلى معلومات أعمال ذات مغزى للعملاء. وهذا في جوهره، يحولها من شركات توافق على حسابات الآخرين إلى مفتشين يطلعون فعليا على الدفاتر.
يقول جيمس تشالمرز، رئيس ضمان الجودة في برايس ووترهاوس كوبرز: “الإمكانات هائلة. اليوم التكاليف عالية لكنها لن تكون كذلك غدا”.
في قلب التطورات في استخراج البيانات تكمن قدرة مدققي الحسابات على جمع وتحليل واختبار مجموعات كاملة من البيانات. في الماضي كانوا يعتمدون على عينات محدودة من البيانات. الآن، مثلا، يمكن للمدققين تحليل مجموعة كاملة من جداول المحاسبة – التي تستخدمها بعض الشركات لتسجيل المدخلات المعدلة والمعاملات المالية الفريدة – بدلا من مجرد أخذ عينة من الجداول التي تقدم لمحة سريعة عن ذلك.
هذه النظرة الأوسع يمكن أن تسلط الضوء على الحالات الشاذة مثل مدخلات يتم نشرها من قبل أشخاص غير متوقعين أو في أوقات غريبة، مثل عطلة نهاية الأسبوع. كما يمكن أن تؤدي إلى تحليل مجموعات كاملة من النفقات وربما فضح مزاعم عن السفر لأسباب شخصية، مثلا.
ونتج عن الانتشار الهائل للبريد الإلكتروني واستخدام الشبكات الاجتماعية تكاثُر ما يسمى البيانات “غير المهيكلة”، على شكل رسائل بريد إلكتروني، ومشاركات على فيسبوك، أو لينكد ـ إن، أو تغريدات. المدققون يصطادون على نحو متزايد هذه البيانات لقياس المشاعر وكشف السلوك الذي يمكن أن ينطوي على أخطاء. التعليقات أو الشكاوى على وسائل الإعلام الاجتماعي يمكن أن تعطي مؤشرا مبكرا على الالتزامات الطارئة المحتملة، مثل ضرر العلامة التجارية، والقضايا البيئية، والتقاضي في المستقبل.
أحد عناصر البحوث التحليلية ينطوي على استخدام الأساليب التنبؤية التي تستند إلى بيانات سابقة لتشغيل سيناريوهات “ماذا لو” للمستقبل. في عام 2014 وقعت شركة كيه بي إم جيه على تحالف مع مجموعة ماكلارين يتيح لشركة التدقيق تطبيق التحليلات والتكنولوجيا التنبؤية نفسها التي طبقتها ماكلارين على فريق فورمولا 1 التابع لها، على العملاء الذين تتولى مراجعة حساباتهم. ويمكن لهذه التكنولوجيا تشغيل سيناريوهات حية حول كيفية تأثير التغيرات في التدفقات النقدية للشركة، أو أسعار الفائدة، أو الإنفاق على التسويق على عائداتها. وهناك سيناريوهات محددة يمكن أن تشمل مدى احتمال التضرر نتيجة حملة مكافحة الكسب غير المشروع فى الصين على مبيعات السلع الفاخرة، أو مدى إمكانية تأثير الطقس المشمس في الجعة.
ظهور الروبوتات
من المرجح أن يكون الشعور بهذه التغييرات أكثر في المناطق التي يستخدم فيها المدققون التكنولوجيا لتحل محل تلك الأجزاء من العملية التي كانت تتم في السابق. “إي واي” التي وظفت 1200 خريج في المملكة المتحدة وإيرلندا عام 2015، تقدر أن هذا العدد يمكن أن ينخفض إلى النصف عام 2020. التطورات التكنولوجية تشمل استخدام تطبيقات تسمح للأجهزة المحمولة بالتحقق من المخزون الفعلي ونقل النتائج في حينها إلى الموقع. وتبحث “إي واي” وبرايس ووترهاوس كوبرز في استخدام الطائرات بدون طيار في حصر الأصول الرأسمالية، مثل الآلات.
وحتى الآن أدوات الذكاء الاصطناعي لا تزال في بداياتها، لكن صناعة الخدمات المهنية تعمل على استحداث نماذج لـ “قراءة” الآلاف من الوثائق المعقدة، من خلال السعي وراء الكلمات الرئيسة والأنماط.
وطورت ديلويت أداة تسمى “آرجوس” تستخدم تكنولوجيا تعلم الآلات لفحص الأوراق الإلكترونية والتعرف التلقائي واستخراج المعلومات المحاسبية الرئيسة من مجموعة واسعة من أنواع المستندات تراوح من المبيعات والتأجير وعقود العمل إلى الفواتير.
هذه الأدوات الاصطناعية “تتعلم” من كل تفاعل بشري، وستزيد قوتها بمرور الوقت الذي تعمل فيه على جمع مزيد من المعلومات.
يقول ريتشارد سيكستون، نائب رئيس ضمان الجودة العالمية في برايس ووترهاوس كوبرز: “في الوقت الذي يبدأ فيه في تطبيق الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلات تحصل على مضاعِف رائع. تبدأ الآلة بتعلم شيء بنفسها ويتدخل الإنسان لمساعدتها على التعلم. وهذا يعتبر في مراحله المبكرة للغاية”.
وحلول التكنولوجيا في كثير من جوانب التدقيق الروتينية، يوفر وقتا يمكن قضاؤه في جوانب أكثر أهمية. ومن المحتمل أيضا أن يوسع نطاق التدقيق، لأنه يحول طبيعة النقاش بين الشركة ومدقق حساباتها إلى جوانب مثل المخاطر المالية ومخاطر الرقابة الداخلية والتحديات الاستراتيجية.
يقول تشالمرز، من برايس ووترهاوس كوبرز: “أنا لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي سيحل محل هذه المهنة، لكنه سيغير ما نفعله”. ويضيف: “المعرفة الفنية ستصبح سلعية على نحو متزايد، وسيكون المهنيون بحاجة إلى تقديم رؤية للبقاء على صلة بذلك. وهذا يتطلب فهما لأعمال ومشاكل ومخاطر العميل جنبا إلى جنب مع القدرة على العمل مع التكنولوجيات الجديدة واستجواب كميات هائلة من البيانات للتوصل إلى استنتاجات سليمة.
ويضيف: “سنغطي أرضية أوسع ونعالج مشاكل جديدة”.
رافائيل، من ديلويت يوافق على ذلك، ويقول: “إن الأمر يتعلق بتوفير الوقت حول عمل ذي قيمة منخفضة حتى تتمكن من التحرك بسرعة أكبر إلى الجزء المتعلق بالحكم في التدقيق”.
المتشككون يُحَذرون من أنه رغم كل هذه الضجة حول تقدم التكنولوجيا، إلا أنها تعتبر في مراحلها الأولى، مضيفين أن ما يسمى تحسينات في التدقيق ستجلب معها مخاطر خاصة بها. تحليل مجموعات البيانات بأكملها يعرض أيضا مشاكل لوجستية. في الطريقة القديمة لأخذ عينات البيانات، قد لا يكون هناك سوى عدد قليل من البنود الاستثنائية. الآن يمكن أن يكون هناك الآلاف منها.
“التحدي”، كما يقول ستون، من كيه بي إم جي “هو ماذا تفعل مع هذه الاستثناءات. في الماضي ربما يكون لديك 40 معاملة في العينة، مع استثناءين أو ثلاثة. الآن قد يكون لديك أربعة ملايين معاملة وعشرة آلاف استثناء. أنت بحاجة إلى العمل على ما إذا كانت هذه تعتبر على مستوى البيانات بأكملها أم أنها معزولة – يمكن أن يكون نحو 9900 منها لا أثر لها على الحسابات”.
سرعة الابتكار تعتبر أيضا تحديا للذين يراقبون الصناعة. يقول برايان هانت، نائب رئيس المنتدى الدولي لمنظمي التدقيق المستقلين: “سيتعين على الأجهزة التنظيمية التخطيط لتطوير المهارات للتأكد من أنه عندما يستخرج المدققون البيانات فإنهم يفعلون بذلك بشكل مناسب. وإذا لم يحدث هذا، فإن الحكم سيُلقى به عرض الحائط لأن مجموعة البيانات خاطئة”.
ويضيف أحد مهنيي الصناعة: “المشكلة الكبرى هي أن الشركات الكبيرة تتحرك بسرعة نحو التدقيق المعتمد على التكنولوجيا وليس لدى الأجهزة التنظيمية الموارد والمتخصصين لمواكبة ما تفعله الشركات”.
يد أقوى
الأجهزة المنظمة للمحاسبة العالمية تتصارع منذ الآن مع محاولة تحسين الاختيار في سوق يهيمن عليها الأربعة الكبار. هناك مخاوف من أن استمرار هذه الشركات في الاستثمار في التكنولوجيا يمكن أن يزيد من تعزيز قبضتها على السوق.
يقول مايكل إيزا، الرئيس التنفيذي لمعهد المحاسبين القانونيين في إنجلترا وويلز: “تم تطوير هذه التكنولوجيا من قبل الأربعة الكبار بتكلفة كبيرة. الأمر الذي يصبح عائقا أمام دخول المستوى التالي من الشركات، لينتهي بك الأمر مع تركيز أكبر على النحو الذي يحصل فيه الأربعة الكبار على وفورات الحجم”.
بالنسبة لشركات التدقيق أنفسها، عليها إعادة التفكير في استراتيجيات تعيين الموظفين، على اعتبار أن مساحات واسعة من العمل اليدوي الذي كان يتم تنفيذه تاريخيا بجحافل من الخريجين يتم الآن عن طريق الآلة. وهي تعيد النظر أيضا في الملف الشخصي للأشخاص الذين توظفهم.
في حين لا يزال الموظفون بحاجة إلى مهارات المحاسبة والتدقيق والخبرات المهمة، يتزايد الطلب على متخصصي التكنولوجيا وتحليلات البيانات. ويعتقد بعض الناس أن أجزاء كبيرة من القوى العاملة لديهم يمكن أن تصبح زائدة عن الحاجة.
جيم بيترسون، وهو متخصص في المحاسبة ومؤلف كتاب “العد التنازلي: الماضي، الحاضر، والمستقبل غير المؤكد للأربعة الكبار في المحاسبة”، يقول: “لم تعد الشركات بحاجة لجيوش صغار الموظفين، لكن بدلا من ذلك ستحتاج إلى أفضل المهوسين بتصميم الخوارزميات في العالم”. ويضيف: “سيدققون حسابات شركات كبيرة بفريق يمكن أن تتسع له قاعة المؤتمرات، بدلا من احتلال برج مكاتب بالكامل”.