Site icon IMLebanon

مكافحة التبييض في “مجتمع الكاش”

MoneyLebanon3
عصام الجردي

لم يسقط مصرف واحد في لبنان منذ 1975 لأسباب اقتصادية، منذ مصرف المشرق وروجيه تمرز وتبعاته. وقبله فيرست فينسيان ووجدي معوض ومصارف وأسماء كثيرة وجدت ضالتها في الحماية السياسية. سقطت بالسرقة الموصوفة وسؤ استخدام القوانين. وكل أبطال الفضائح يتنعمون في الخارج. مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون الارهاب دانيال غلازر يعلم أن لبنان هو الوحيد في العالم الذي أنشأ مقاصة بالدولار الأميركي تثير حفيظة الخزانة الأميركية. وهي حالة نادرة لمصرف مركزي يعتمد مقاصة داخلية بعملة ليست عملة بلاده. قد يكون الواعز الأول أن اقتصاد لبنان مدولر بواقع 65% منه. هذا يعني أن حركة تسوية الشيكات في مقاصة مصرف لبنان بالليرة اللبنانية يفترض (وليس بالضروروة زيادةً أو نقصاناً) أنها تساوي نحو 35% من قيمة الشيكات الإجمالية الخاضعة للتسوية. والباقي من خلال مقاصة الدولار الأميركي. في نظام ما زال يخضع للسرية المصرفية، وفي بيئة سياسية فاسدة وادارة عامة تفتقر الى الشفافية، فلدى الخزانة الأميركية الكثير من الدوافع لتأسيس الشكوك والريبة. ذلك أن الشيكات المحررة بالورقة الخضراء خارج دائرة الاعتمادات الخارجية والاستيراد والتصدير، تعبر مقاصة دولار بيروت من دون عين الرقابة لمقاصة نيويورك على عملتها. ولا يقدم كثيراً أو يؤخر لكون الواعز الثاني من وراء مقاصة دولار بيروت اختصار الوقت ( value Date) لإتمام المعاملات والتحقق من مؤونة الشيكات قبل تسويتها. من دون انتظار دورة مقاصة نيويورك.
لكن مهلاً. لم يقر مجلس النواب مشروع القانون الذي أعده مصرف لبنان وأحالته الحكومة ويتعلق بإلغاء حق شراء أسهم لحامله وإلزام حملة هذا النوع من الأسهم تحويلها أسهماً اسمية. أسهم لحامله مكتومة الهوية، ومجال رحب لا حدود له لتبييض الأموال ونقل المال الفاسد ليدمج بالمال النظيف في الشركات المساهمة. فسهم لحامله كورقة اللوتو. وكالعملة لحاملها. مصرف لبنان أصدر التعميم رقم 411ولم ينتظر مجلس النواب. التعميم يفترض أن يضع حداً لمسرب تبييض الأموال الذي من شأنه إفساد مؤسسات ووضعها في خانة الريبة. الأخطر من ذلك، يتيح نوع الأسهم هذا لمجهولين من جنسيات عدة تملك أسهماً في مؤسسات لبنانية. استعان مصرف لبنان بالقوانين الدولية وليس المحلية. بقي أن تتابع هيئة التحقيق الخاصة عملية تحويل الأسهم ومصادر تمويلها في الأساس قبل شرائها فئة لحامله. فهل كان الأمر أيضاً يستدعي ضغوط الخزانة الأميركية لمثل هذا الاجراء؟
ننتقل الى ما هو أدهى. قانون “فاتكا” الأميركي الذي أرغمنا على تنفيذه. لكن ماذا عن الضريبة في لبنان؟ عن تقديرها؟ وجبايتها؟ وليس المجال للحديث عن البنية الضريبية في لبنان، ولمصلحة من تفرض وكيف تنفق عائداتها. فالقضية تساوي نظاماً طبقياً بأكمله، رثاً ولا يشفق عليه.
قبلنا بهذا النظام الضريبي، وتكليفه الحلقة الأضعف من الشعب عبئاً أكبر من التكليف. لكن من يراقب تنفيذه وتقدير الضريبة العادلة؟ الاحتيال الضريبي والتهرب غير المشروع جريمتان أكبر من جريمة تبييض أموال. إنهما سرقة مكشوفة لحقوق الخزانة والمواطن والاقتصاد، تحرمه من تحسين بنيته التحتية والانفاق على الصحة والتعليم وشبكة الأمان الاجتماعي. قبل سنوات علمنا ان مشروع قانون قيد الإعداد في مصرف لبنان يلزم الشركات التي تنوي الحصول على تسليفات مصرفية تقديم موازناتها الى المصرف للوقوف على مركزها المالي ونشاطها الاقتصادي. وكان هدف المشروع على الأرجح ضبط التسليفات حماية للمصارف. طوي المشروع فقط لأنه يكشف وضعية المؤسسات وأرباحها ودفاترها الضريبية. علماً أن مصلحة الشركات في إظهار مراكزها المالية بشفافية. إذ كلما اقتربت من قواعد الإفصاح والمعلومات كلما حصلت على تسليفات أكبر، وبشروط تفضيلية للمقرض والمقترض على حد سواء. تدعم أصول المصرف بموجودات صلبة قليلة المخاطر، وتتيح لطالب القرض السيولة التشغيلية لزيادة حجم التسهيلات مع الموردين والمستهلكين، أو لزيادة حجم أعماله وترسمله. لا يوجد من الأسباب الوجيهة التي تحمل الشركات على رفض المشروع رغم منافعها منه سوى ارادتها بالتدليس الضريبي. أو لأسباب أخرى لا علاقة لها بالمال النظيف، وباستيفاء الخزانة حقوقها الضريبية وبالممارسة التجارية والاقتصادية المحمية بالقانون.
القانون الرقم 318 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال شمل الأموال الناجمة عن جرائم السرقة واختلاس الأموال العامة أو الخاصة، أو الاستيلاء عليها بوسائل احتيالية أو بالتزوير أو بإساءة الأمانة. ولا يمكن إيداع تلك الأموال ولا غيرها من الأموال غير المشروعة المصارف أو استخدامها لحيازة أصول وضمانات قروض.
الرَشى أيضاً تبييض أموال. وجريمة يعاقب عليها القانون. حين تكون رشوة المسؤول ممراً إلزامياً للحصول على التعهدات والمناقصات التجارية، يغدو مشروعاً السؤال عمّا اذا كان التقيد بالقانون والأخلاق “مسألة مفيدة وممارسة تجارية حميدة”. تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن هناك نحو تريليون دولار أميركي رشىً تدفع كل سنة لكبار المسؤولين في الدول النامية. توازي نحو ثلث الناتج المحلي لهذه الدول.
بقي القول باستحالة وقف تبييض الأموال نهائياً في لبنان. في مجتمع قائم على التعامل بالنقد. 90% من مبيعات التجزئة سدادها نقداً. المخازن الكبرى (السوبر ماركت والمولات) التعاونيات الاستهلاكية، شركات السيارات ومتاجر الألبسة، مصانع المشروبات الغازية والمياه، محطات بيع الوقود وزيوت السيارات وتجارة قطعها، بيع الحلي والمجوهرات ناهيك عن كل أمكنة الشراء المفتوحة لقبول السداد بالنقد ومعها الفنادق ودور اللهو وألعاب الميسر. جزء كبير من العقارات والشقق السكنية تسدد أثمانها نقداً كلياً أو جزئياً. نذهب الى أبعد. لو تقدم مدين من أحد المصارف لسداد جزء من ديونه غير المشكوك في تحصيلها نقداً، هل يرفض المصرف؟ كيف لو كانت ديوناً مشكوكاً في تحصيلها؟
من قال أن الارادة السياسية موجودة للخروج من “عالم الكاش” في لبنان الى البطاقات الالكترونية؟ المال المحظور نقداً والمشكوك في مصادره ينفق على كل شيء. الباقي يوسم بخاتم المصارف ويشرع. المؤسسات التي سلف ذكرها عرضة هي الأخرى لاستقبال مبيّضي الأموال في مقابل مالي. كأن يأتي أحدهم يحمل أموالاً نقدية من عمليات محظورة قانوناً ويتعذر عليه إيداعها نقداً لتفادي سؤاله عن مصدرها، ويعرض على مؤسسة تجارية متاح لها الإيداع نقداً قبول أمواله المشكوك فيها بأقل من قيمتها. ومعلوماتنا المؤكدة تفيد بمثل هذه العروض. التحويلات المسموح بها نقداً الى المصارف من أعمال المؤسسات التجارية يحددها المصرف مع عميله تبعاً لتعميم مصرف لبنان الرقم 83، بموجب استمارة العمليات النقدية (Cash Transaction Slip) أو CTS”” كما تعرف. تعميم مصرف لبنان الأخير (الرقم 421 في 4 أيار 2016) أتاح للمصرف المتلقي نقداً من “بعض عملائه” المحددين في التعميم إعفاءً من سقف المبالغ المستثناة من تعبئة الاستمارة. “وكما حجم الأعمال، فالأفعال دائما بالنوايا الحسنة”.
كل العالم تعلم تبييض الأموال من غسالات نيويورك. الغسالات ما تزال تعمل هناك. لكن القانون يعمل أيضاً. ولا يكاد يمضي أسبوع إلاّ وتفرض عقوبات على مصرف تجاوز القانون. في بلد كلبنان يقترب من الدولة الفاشلة، ومضروب بالفساد السياسي والأخلاقي وانتهاك الدستور والقوانين سينتظر طويلاً للخروج من هذه البأساء.