كتب ربيع كلاس في صحيفة “الراي” الكويتية: شكّل اتهام “حزب الله” لمَن وصفهم بـ “مجموعات تكفيرية” باغتيال “عقله الأمني” مصطفى بدر الدين في محيط مطار دمشق الدولي ليل الخميس الماضي، مفاجأة لم تقلّ دوياً عن صوت الانفجار الهائل الذي أنهى حياة واحدة من الشخصيات – الألغاز في الحزب الذي يفقد قادة ورموزاً، الواحد تلو الآخر كعماد مغنية ونجله جهاد، علي فياض، سمير القنطار، حسان اللقيس وسواهم ممّن يسقطون في الحرب الاستخباراتية مع اسرائيل وعلى الجبهات في حربٍ لا تقلّ هوادة في سورية وبعض الساحات الأخرى.
والمفاجأة التي فجرّها “حزب الله” بإعلانه امس ان “التحقيقات لدينا أثبتت ان الانفجار ناجم عن قصف مدفعي قامت به المجموعات التكفيرية”، انطوت على خلاصاتٍ ملتبسة بعدما كانت الدلائل الأولية، التي لا تحتاج الى جهد تقني او سياسي، تؤشر الى وقوف اسرائيل وراء عملية الاغتيال بصاروخيْ جو – أرض استهدفا المبنى المخصص لـ “حزب الله” في محيط مطار دمشق بقصد اصطياد بدر الدين في إطار الحرب المفتوحة بين اسرائيل و”حزب الله”.
واذ بدت هذه المفاجأة “غير مفاجئة” في نظر أوساطٍ رأت ان “حزب الله” أخذ وقتاً لا يحتاجه للتحقيق في عمليةٍ حَسَم أمرها على الفور خبراء المتفجرات، وترك على لسان نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم الباب مفتوحاً أمام مروحة واسعة من الاتهامات في كلامه خلال التشييع، من اسرائيل الى اميركا ومن التكفيريين الى داعميهم الاقليميين. والسبب في تقدير هذه الأوساط كان حجم الإرباك الذي دهم قيادة الحزب المضطرة ان “تبني على الاتهام مقتضاه”، وخصوصاً انه سيكون في وضعٍ لا يُحسد عليه بعد نجاح اسرائيل في التخلص من قادة كبار فيه كمغنية وبدر الدين.
مصادر خبيرة وعلى دراية بمجريات الصراع في سورية وصفت اتهام “حزب الله” للمجموعات التكفيرية بـ “الرواية غير المُقْنِعة”، والتي سيكون من الصعب الترويج لها لأسباب عدّة لعل أبرزها:
ان أيّ جهة لم تعلن مسؤوليتها عن اغتيال بدر الدين، وتالياً فإنه اذا كان من عادة اسرائيل تَجنُّب تبنّي مثل هذه العمليات الأمنية، فإن المجموعات التكفيرية التي تعوّدت ان تفاخر عبر الشبكة العنكبوتية بأيّ إنجاز، لم توح، لا من قريب او بعيد، بأي صلة لها بما قد تعتبره انتصاراً.
لم يتمّ رصد سقوط اي قذيفة على دمشق طوال هذا الاسبوع، ولا تملك المعارضة السورية او المجموعات التكفيرية القدرة على الإصابات الدقيقة ولو من المسافة التي تفصلها عن محيط المطار.
ان مَن يملك القدرة على إصابة غرفة في مبنى لوجود بدر الدين فيها، يمكنه إصابة مدرج المطار ووقف العمل فيه، وهذا الأمر أولوية مطلقة للمعارضة السورية على أهمية بدر الدين ودوره في الحرب هناك.
اذا كانت المجموعات التكفيرية تملك أسلحة يصل مداها الى دمشق وقادرة على هذا المستوى من التصويب الدقيق، فإنها كانت اصطادت الرئيس بشار الأسد في القصر الجمهوري لا مصطفى بدر الدين.
من عادة خبراء المتفجّرات الا يحتاجوا لـ 24 ساعة لتحديد نوعية القذيفة او الصاروخ وفحص طبيعة الانفجار، وتالياً انتظار “حزب الله” لم يكن تقنياً بل لدرْس الوجهة السياسية للاتهام.
واذا صحت تقديرات هذه المصادر ووقائعها، يصبح من الجائز السؤال: لماذا تعمّد “حزب الله” تبرئة اسرائيل من دم قائده الأمني مصطفى بدر الدين وذهب الى اتهامٍ ضعيف بتحميل المجموعات التكفيرية مسؤولية عملية الاغتيال وبالقصف المدفعي؟
دوائر مراقبة على صلة بالطبيعة المعقّدة للصراع في الشرق الاوسط رأت ان “حزب الله” أراد من خلال اتهامه لمجموعات تكفيرية باصطياد “نخاعه الشوكي”، تحقيق هدف مزدوج:
اولاً: هذا الاتهام يسهّل على “حزب الله” تجنّب الرد على “الفاتورة الباهظة” التي راكمتها اسرائيل بعد اغتيالها قائده العسكري عماد مغنية العام 2008 في دمشق، وأحد قيادييه حسان اللقيس في عقر داره في الضاحية الجنوبية العام 2013، والآن قائده الأمني بدر الدين في دمشق ايضاً، اضافة الى آخرين.
ثانياً: ان اتهاماً من هذا النوع يمكّن “حزب الله” من المضي قدماً في الحرب الفائقة الكلفة في سورية، تحت عنوان مواجهة المجموعات التكفيرية التي يتعاطى معها الحزب كـ “اسم حركي” للصراع الاقليمي في سورية وعليها.
ولم تستبعد هذه الدوائر ان يتعمّد “حزب الله”، في اطار إسباغ الصدقية على روايته باتهام التكفيريين، تنفيذ عملية ذات ثقل في سورية ضدّ هذه المجموعات قريباً واطلاق اسم بدر الدين عليها، متوقّعة حصول ذلك قبل إطلالة الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله الجمعة المقبل.
ووصفت الدوائر عيْنها رواية “حزب الله” عن اغتيال بدر الدين بـ “المجازفة”، فهو وضع من جهة صدقيته على المحكّ عبر إشاحة المسؤولية عن اسرائيل ورميها في اتجاه آخر، وقدم “نصراً مجانياً” من جهة اخرى للمجموعات التكفيرية التي ربما تجري فبْركات لإعلان إحداها المسؤولية عن الاغتيال ولو بعد حين.
وعبّرت الدوائر نفسها عن اعتقادها بان إدارة “حزب الله” الظهر لمسؤولية اسرائيل عن تصفية قادته سيجعلها أكثر جرأة في مطاردة مسؤوليه لشعورها المتزايد بأنها أصبحت خارج المحاسبة بعدما قرّر الحزب جعل التكفيريين وُجهة اتهامه، وتالياً فان هذا الأمر سيعرّضه الى مزيد من الاستنزاف.
وفي تقدير هذه الدوائر ان “حزب الله”، الذي يولي أولوية مطلقة لحربه في سورية كرأس حربةٍ في المشروع الاقليمي الذي تقوده ايران، يتجنّب اي مواجهة مع اسرائيل مكتفياً بإرساء “توازن ردع”، لأنه غير راغب في فتح الجبهة مع تل ابيب وغير قادر ايضاً على خوض أكثر من حرب في وقت واحد.
ولم تستبعد تلك الدوائر ان تكون من الأسباب الموجبة التي حدت بـ “حزب الله” لاختيار هذه الوجهة من الاتهام:
ان تحميل اسرائيل مسؤولية اغتيال بدر الدين بعد مغنية وآخرين يعني انه لن يكون في وسع “حزب الله” إلا الرد في الخارج، وهو ما يعرّضه لتهمة “الارهاب” ويساهم في التخفيف من وطأة هذا الاتهام لـ “داعش” و”النصرة”.
ان اي عمل أمني لـ “حزب الله” في الخارج سيعرّضه ومعه بيئته لضغوط هائلة شبيهة بما يعانيه الآن مع القطاع المصرفي اللبناني الذي اضطر الى الالتزام بقانون اميركي يحرم التعامل مع حزب الله والمحسوبين عليه.
واستناداً الى هذه الوقائع أصبح “حزب الله”، حسب هذه الدوائر مضطراً الى تجرُّع الكأس المُرة وهو يشاهد قادته يتساقطون الواحد تلو الآخر على الارض المكشوفة في سورية وتحت سماءٍ تضجّ بالحرب الالكترونية والطائرات من دون طيار، وفي بيئةٍ غير حاضنة على الدوام.