Site icon IMLebanon

البرازيل .. حكايات من قصص العذاب اليومي

brazil-st
جو ليهي وسامانثا بيرسون

الطابق الأرضي من مبنى برج وزارة المالية في ولاية ريو دي جانيرو مُغلق بألواح، كما لو أنه يستعد لعاصفة. مع ذلك، الغطاء الخشبي لم يتم تثبيته هناك لحماية المكاتب من الرياح القوية، وإنما من الموظفين الحكوميين الذين كانوا يُنظّمون احتجاجات عنيفة ضد تخفيضات الميزانية وتأخير الرواتب الناشئ عن وجود أزمة في الموارد المالية الحكومية.

التخفيضات العميقة أجبرت وزارة المالية على تقليص عدد حرّاس الأمن الذين يحمون مبانيها، الأمر الذي يُسهّل على المُتظاهرين اقتحام مكاتبها. يقول جوليو بوينو، وزير المالية في ريو، عن جهوده لتحقيق التوازن في الميزانية: “كل يوم هو عبارة عن ساعات من العذاب. المَخرَج الوحيد من هذا الأمر هو أن تبدأ البرازيل بالنمو مرة أخرى”.

في أعقاب تصويت مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي لإدانة الرئيسة ديلما روسيف وبدء إجراءات الاتهام ضدها، يقول محللون إن الأمر سيستغرق شهورا إن لم يكُن سنوات لإحداث انقلاب في حالة الضيق الاقتصادي الذي انفلت من عقاله خلال الأعوام الأخيرة من حكم حزب العمال الذي تنتمي إليه.

تم تعيين حكومة مؤقتة بقيادة نائب الرئيسة، ميشال تامر، لتولي المنصب خلال فترة توجيه الاتهامات – التي يُمكن أن تستغرق ما يصل إلى ستة أشهر – وربما أكثر من ذلك إذا وجدها مجلس الشيوخ مذنبة بتهمة ارتكاب جرائم تتعلق بالميزانية. بعضهم مُتشكك في قدرة تامر، وهو سياسي من الحرس القديم، على تغيير مسار الاقتصاد، لكن بالنسبة لمعظم البرازيليين التغيير – أي نوع من التغيير – ضروري وفي أسرع وقت ممكن. وعملت الإطاحة بروسيف على تعزيز العملة، الريال، بنحو 11.6 في المائة مقابل الدولار هذا العام.

الأمة التي كانت قبل بضعة أعوام فقط تتباهى بوضعها الاقتصادي الصاعد في العالم تُعاني انعكاسا مُحيّرا في حظوظها. بعد نمو وصلت نسبته إلى 7.5 في المائة في 2010، العام الذي سبق تولّي روسيف المنصب، انخفض الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي 3.8 في المائة ومن المتوقع أن يتقلّص مرة أخرى هذا العام. ومن بطالة بمستوى قياسي منخفض يُقارب 4 في المائة في كانون الأول (ديسمبر) 2014، قفز المعدل إلى 10.9 في المائة. ويجتاح البلاد شعور بالكآبة قبل أقل من ثلاثة أشهر على حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية في ستاد ماريكانا في ريو.

ووفقا لمحللين، سينظر إلى تامر على أنه قصة نجاح، إذا استطاع إضفاء حالة من الاستقرار على الاقتصاد قبل انتخابات مُقررة في عام 2018. النمو الفعلي سيكون بمثابة معجزة. وقدرته على إجراء إصلاحات هيكلية مهمة، مثل إصلاح ميزانية البلاد ونظام التقاعد المُكلف، مشكوك فيها نظرا لجوانب اللبس السياسي، فضلا عن تورّط جزء من مجلس وزرائه أصلا في تحقيقات الفساد حتى قبل توليه المنصب الأسبوع الماضي. يقول باولو دال بينو، رئيس قسم أمريكا اللاتينية في شركة بيريللي الإيطالية لصناعة الإطارات، التي تسيطر ما يُقارب 50 في المائة من سوق الإطارات الجديدة في البرازيل: “الناس الذين سيُديرون البلاد خلال العامين المُقبلين لديهم مسؤولية كبيرة تجاه الشباب البرازيليين. إذا لم يفعلوا ما نأمل أنهم سيفعلونه، سوف نخسر عشرة أعوام”.

ركود مؤلم

وانديرسون دا سيلفا أروجو يشعر بالأزمة بشكل حاد، يقع “مكتبه” على ساحل كوباكابانا في ريو دي جانيرو، حيث يؤجر الكراسي والمظلّات. بالنسبة للعين غير المُدرّبة، هذا يبدو كأي يوم مُشمس آخر في منتصف الأسبوع.

مع تكسر الأمواج على الشاطئ الرملي الممتد الأكثر شهرة في المدينة، يحاول الباعة بيع كل شيء من النظارات الشمسية إلى الجبن المشوي على العصا – تخصص الشاطئ البرازيلي – لعدد من المتشمّسين.

مع ذلك، بالنسبة لدا سيلفا أروجو، هذا مشهد يبعث على الأسى. يقول الرجل البالغ من العمر 39 عاما، مُشيرا إلى مجموعات من الأجسام البرونزية المُلقاة على الرمال بقدر ما تستطيع أن ترى العين: “انظر إلى جميع الناس الذين يستلقون على الأرض، قبل بضعة أعوام، كانوا جميعا سيجلسون على الكراسي [الخاصة بي]”.

في الوقت الذي يُنشب فيه الركود أظفاره، يقول إن مرتادي الشواطئ ينفقون بشكل أقل، أيضا: “يوم أمس خسرت 70 ريالا (19.80 دولار)”، مُضيفا أنه يُفكّر في العمل سائق سيارة أجرة مع “أوبر” لتغطية نفقاته. ويتابع: “كانت الأمور صعبة منذ بداية العام”.

يُلقي باللوم في المقام الأول على الحكومة بسبب سوء إدارتها للاقتصاد، فضلا عن التباطؤ في الطلب الصيني على السلع الأساسية في البرازيل. مع ذلك، دا سيلفا أروجو يعترف بأن الفساد والمخالفات لا تقتصر على حزب العمال أو السياسيين. “من الصعب اتباع القوانين في البرازيل”.

تمتد جذور الأزمة إلى استنفاد طفرة الاستهلاك والائتمان التي رعاها لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، سلف روسيف ومؤسس حزب العمال، خلال الأعوام الثمانية التي قضاها في السلطة حتى عام 2010. بحلول الوقت الذي تولّت فيه روسيف المنصب في عام 2011، كانت الأُسر البرازيلية مُثقلة بالديون، ما جعل هذه الأسر تؤخذ على حين غرة في الوقت الذي كانت تنتهي فيه دورة السلع الأساسية الكبيرة التي غذّت الكثير من النمو خلال أعوام لولا.

روسيف حاولت مواجهة التباطؤ من خلال إبقاء صنابير المالية العامة مفتوحة. ويتّهمها الكونجرس بمحاولة تمويه سخائها عن طريق وضع جزء من الإنفاق خارج الميزانية، على الميزانيات العمومية للمصارف التابعة للدولة. وبسبب هذه الخطوة المزعومة يتم توجيه الاتهامات لها. وفشلت هذه الاستراتيجية في الوقت الذي شعرت فيه الأسواق بالهلع من تدهور موارد المالية العامة في البرازيل.

يقول محللون إن الفساد أيضا لعب دورا ضخما. التحقيق في مخطط في شركة النفط المملوكة للدولة “بتروبراس”، الذي اشتمل على تعاون سياسيين من الائتلاف الحاكم في الأساس مع مديرين ومُقاولين لتبادل الرشا من أجل مناقصات المشاريع، أظهر تورّط الكثير من أعضاء الكونجرس البرازيلي وجزء كبير من صناعتي النفط والبناء فيها. وزير المالية في ريو، بوينو، يقول إن الانهيار اللاحق لشركة بتروبراس والمُقاولين الذين تتعامل معهم، جنبا إلى جنب مع الانخفاض الحاد في أسعار النفط، أضعف دخل الولاية بشكل حاد.

ما وراء شواطئ ريو الذهبية، في المياه العميقة في المحيط الأطلسي، تكمن اكتشافات النفط البحري الكبيرة التي كانت بتروبراس تطوّرها قبل وقوع الأزمة. انخفضت مبالغ الريع المتحققة من النفط إلى ولاية ريو بنسبة 38 في المائة إلى 5.5 مليار دولار في عام 2015، مقارنة بالعام السابق. وتُعاني الولاية الآن عجزا يبلغ 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الخاص بها.

ولا تستطيع الولايات البرازيلية إصدار سندات لتمويل العجز دون الرجوع إلى الحكومة المركزية، لكن برازيليا، بما لديها من عجز وطني خاص بها يبلغ 10 في المائة، مترددة في السماح بمزيد من النفقات المُفرطة في الموارد المالية الحكومية. ومثل غيرها من الولايات، المشكلة في ريو هي التزامات المعاشات التقاعدية غير الممولة – تُنفق الولاية على المتقاعدين أكثر مما تُنفقه على العاملين الذين هم على رأس عملهم.

وحكومات الولايات مسؤولة عن الصحة والتعليم والشرطة ومكافحة الحريق والنقل. إضافة إلى ريو، ساو باولو – أغنى ولاية في البرازيل – والمنطقة الجنوبية من ريو جراندي دو سول، هي من بين التي تواجه مشكلات صعبة في مجرد تحقيق التوازن في ميزانياتها. في ريو تفتقر الشرطة للبنزين من أجل سياراتها والذخيرة لأسلحتها، حتى أن هناك تقارير تفيد بأنهم كانوا يقتصدون في الورق اللازم لكتابة أقوال الشهود. يقول فيرناندو بانديرا، من اتحاد الشرطة المدنية في ريو: “سيارات الشرطة لدينا، مع القليل من الوقود، لا تخرج كثيرا، كما نجري تدريبا قليلا جدا بالذخيرة الحية”.

حياة العائلة

موظفو القطاع العام ليسوا وحدهم من يُعاني التداعيات من الركود وحتى فضيحة بتروبراس تُهدد أكثر الناس فقرا في المجتمع، مثل والاس منديس ماشادو. يعتمد ماشادو على الجمعية الخيرية “سودي كريانكا” Saúde Criança، التي يوجد مقرها في منزل صغير على حافة غابة مجاورة للمدينة، للمساعدة في توفير الرعاية الطبية لابنته ليان، البالغة من العمر ثلاثة أعوام. وكان قد تم تخفيض تمويل الجمعية بعد تورّط واحدة من الجهات الأساسية المانحة – تم اتّهامها بدفع رشا – في فضيحة بتروبراس.

ولا تزال الجمعية توفر المساعدة لليان التي ولدت مع إعاقات جسدية وعقلية شديدة بعد حجب الأكسجين عنها للحظات عند الولادة. وتساعده الجمعية أيضا في رفع دعوى قضائية ضد المستشفى الذي ولدت فيه الطفلة، وتوفر المستلزمات الطبية اليومية التي يحتاج إليها وزوجته لرعاية ليان، بما في ذلك الحُقن حتى يتم حقن الطعام مباشرة إلى معدتها.

يقول ماشادو (34 عاما) الذي يكسب عمولة من بيع الفرشات الصحية، إن الركود يجعل الحياة أصعب بكثير بالنسبة للعائلة. “المبيعات انخفضت كثيراً، تراجعت 60 في المائة هذا العام”، وكانت تكلفة الباباي الذي تحتاج إليه ليان لمساعدتها على الهضم، خمسة ريالات لكل ثماني حبات في نهاية العام الماضي – الآن خمسة ريالات لكل حبة. ولا يريد ماشادو إلقاء اللوم على أي أحد في حالة الركود، لكنه يقول إن الحكومة المحلية كانت “طموحة جدا” في إنفاق مبالغ كبيرة استعدادا لاستضافة الألعاب الأولمبية بدلا من الاستثمار في المستشفيات. مع ذلك، لا يزال يتحلّى بالإيجابية بشأن المستقبل ويُخطط لافتتاح مطعمه الخاص في يوم ما. “بالطبع أنا متفائل؛ فأنا برازيلي!”.

المستثمرون الأجانب يراقبون البرازيل عن كثب أيضا الذين يعيشون منهم في البلاد، مثل دال بينو من شركة بيريللي، يشعروا بالتدهور في حياتهم اليومية. باعتباره أحد سكان ريو، يقول إن المدينة الآن أقل أمانا: يقول: “إيبانيما وليبلون، وهما منطقتان كانتا هادئتين جدا في العادة، الآن كل يوم هناك شيء [جريمة] يحدث”، مُشيرا إلى الضواحي على جانب الشاطئ بالقرب من كوباكابانا.

خيبة الأمل بالنسبة للمستثمرين الأجانب هي كيف أن قصة النمو في البرازيل فشلت بعمق في تلبية التوقعات. يذكر دال بينو أنه في عام 2013، وصلت مبيعات السيارات البرازيلية إلى 3.7 مليون سيارة – ما جعلها رابع أكبر سوق في العالم. وكان “أنفافيا”، اتحاد شركات صناعة السيارات البرازيلية، يتوقع أن يصل الرقم إلى خمسة ملايين في عام 2018. لكن دال بينو يقول: “هذا العام الاجماع فيما يتعلّق بإنتاج السيارات هو أن العدد سيكون مليوني سيارة، إنه انخفاض هائل”.

الأيام الأخيرة

الأيام الأخيرة لحكومة روسيف لم تُساعد في العام الماضي زادت الحد الأدنى للأجور – التي على أساسها تقاس مؤشرات معاشات التقاعد والمزايا الأخرى – بما يُقارب 12 في المائة، على الرغم من أن الاقتصاد كان ينكمش، لكن دال بينو يقول إنه لا يزال متفائلا. الاقتصاد البرازيلي ليس في وضع سيئ بقدر ما كان عليه الاقتصاد الأرجنتيني، الذي كان خاضعا إلى قيود على رأس المال والصادرات، ومع ذلك شهد انتعاشا قويا في الثقة بعد انتخاب موريسيو ماكري الذي يُنظر إليه على أنه رئيس مؤيد أكثر للسوق.

يقول دال بينو: “لديهم [الحكومة الجديدة] وقت قصير لإنجاز الأمور (…) خلال الأيام المائة الأولى سنرى الكثير من الأمور تحدث”.

ووفّرت الأزمة أيضا بعض فرص الأعمال، خصوصا بالنسبة للشركات المختصة بالخدمات على الإنترنت. كريستيانو سيمويس، صاحب شركة S7 Study، وهي شركة مختصة في تبادل الطلاب في الخارج، يقول إن السوق للبرازيليين الذين يدرسون في الخارج كانت تنمو في الأصل بنسبة 20 – 30 في المائة “ومع الأزمة، نمت أكثر”، لأن الشباب البرازيليين يبحثون عن الفرص في أسواق العمل في الخارج.

بوينو يرفض التعليق على ما إذا كانت حكومة تامر ستكون بمثابة تحسّن، لكنه ينتقد سياسات حزب العمال، مثل القانون الذي يُقيّد الاستثمارات الأجنبية في اكتشافات النفط البحري وتعامُل الحكومة المُتراخي مع الميزانية الفيدرالية.

يقول: “مع سياسة أكثر انضباطا في المالية العامة، ستكون هناك مساحة أكبر حتى تنمو البرازيل مرة أخرى. فيما يتعلّق بمسألة النفط، أًصدرت الحكومة تشريعات كانت خاطئة تماما في تقديرها، هذه أشياء إذا أصلحناها بسرعة، سنحصل على نتائج سريعة”.

عودة إلى كوباكابانا، يقول دا سيلفا أروجو إنه متفائل بحذر بشأن مستقبل بلاده: “نحن البرازيليين تعلّمنا بالطريقة الصعبة عدم الثقة في السياسيين، لكنني أحب التغيير، نحن بحاجة إلى التغيير”.