كتب مروان الشمالي في صحيفة “الوطن” السعودية:
يكاد ينسى اللبنانيون معنى الانتخابات في حياتهم السياسية، مع أن هذه الممارسة تميزت منذ أكثر من 160 عاما، عندما قامت متصرفية جبل لبنان، وبدأت مناطقها تنتخب ممثليها في مجلس إدارتها. وتقلص معنى الانتخاب عبر صناديق الاقتراع لدى نشوب الحرب في 1975، وعاد لبنان لممارسة ثقافة الانتخاب عام 1992م، بعد إقرار اتفاق الطائف برعاية المملكة العربية السعودية.
غير أن مضمون العملية الانتخابية وشكلها تغيرا في تلك الحقبة، حيث وضع النظام السوري يده على لبنان، وحاول التحكم بكل مؤسساته الدستورية، فعين نوابا في البداية، ثم تحكم بتشكيل اللوائح ليضمن أكثرية نيابية موالية، واستمر الأمر على هذا النحو حتى عام 2005، عندما أدت قرارات التمديد لرئيس الجمهورية، أميل لحود، إلى اعتراض قوى سياسية لم يعد في إمكانها تحمل الهيمنة، فجرى اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري وعدد من الشخصيات النيابية والسياسية والثقافية، وانتهت تلك المرحلة بإخراج القوات السورية من لبنان في 26 نيسان 2005.
إلا أن الواقع كان مؤلما، حيث خرج السوري وورثه الإيراني الذي كان يستثمر طويلا في حزب الله، وتحول إلى جزء أساسي من منظومة التوسع الإيرانية في المشرق العربي.
مع مصادرة الحياة السياسية من قبل حزب الله، منع انتخاب رئيس للجمهورية في 2007، وجرى احتلال وسط بيروت لمدة سنة ونصف السنة، ثم اجتاح حزب الله العاصمة ومناطق أخرى، وكاد لبنان يدخل دوامة الحرب الأهلية مجددا، واختتمت تلك المرحلة باتفاق الدوحة وتعيين قائد الجيش ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، وإجراء انتخابات نيابية استبقها حزب الله بإعلان أن من ينال أكثرية نيابية فيها يشكِّل الحكومة الجديدة. إلا أن ما جرى لاحقا كشف نوايا الحزب المذكور، فقد منعت قوى 14 آذار الفائزة بالأكثرية النيابية من تشكيل الحكومة، ودخل لبنان في دوامة شلل حكومي ونيابي أوصلته إلى التمديد لمجلس النواب ومنع انتخاب رئيس للجمهورية.
جاءت الانتخابات البلدية المحلية نوعا من بدل عن ضائع، في ظروف الفراغ السياسي المفروض، فلأول مرة منذ ست سنوات يجري هذا النوع من الاختبار الشعبي، بعد أن بلغ الإحباط مداه في أوساط المواطنين، ورغم الطابع المحلي لهذه الانتخابات، فان القوى السياسية اعتبرتها فرصة لاختبار مدى نفوذها وحجم تأثيرها في الناخبين، وبالنسبة إلى حزب الله تحديدا كانت اختبارا جديا لمدى سيطرته على الطائفة الشيعية في لبنان.
أظهرت انتخابات بيروت التي افتتحت موسم الاقتراع حيوية شعبية ملموسة، وكانت امتحانا لتيار المستقبل برئاسة الرئيس سعد الحريري، في تمسكه بمبدأ المناصفة في مجلس بلدية العاصمة، ونجح الحريري في توفير دعم واسع لرؤيته، تجسد في تصويت أكثر من 40 ألف ناخب إلى جانبه.
لم ينخرط حزب الله في انتخابات بيروت، فقد كان هدفه فيها تحجيم وزن الحريري، وتناقلت وسائل إعلامه وكذلك وسائل إعلام إيرانية تحليلات مفادها أن الحريري فشل في تأمين إقبال واسع على الانتخاب. هذا التحليل جاء استباقا للامتحان الذي وجد حزب الله نفسه في خضمه، فللمرة الأولى يجري فحص لمدى ثقة الجمهور الشيعي بسياسته منذ انخراطه في الحرب السورية، حيث خسر حوالي 1400 عنصر ومئات الجرحى، وذهب الحزب في استنفاره لكسب الناخبين إلى حد إصدار فتوى تأمر الناخبين بالتصويت إلى مرشحيه، واستنفر 10 آلاف شخص للعمل في منطقة البقاع، في محاولة لفرض خياراته في نحو 80 مجلس بلدي فيها. لم تنفع شعارات حزب الله، أنه المدافع عن تلك القرى والبلدات الحدودية في وجه داعش وغيرها، وتشكلت في وجه لوائحه لوائح مضادة، خاضت معارك انتخابية في مدن رئيسية لها رمزيتها، خصوصا بعلبك، التي ربحها بفارق نقاط قليلة على معارضيه الذين حازوا قرابة نصف الأصوات.
كانت حصيلة البقاع مقلقة، فانصرف حزب الله إلى الاستعداد لانتخابات المنطقة الجنوبية، وخرج قياديوه في حملات ضد المرشحين الآخرين، ووصل الأمر بهم حد تهديد الناخبين بأن من لا ينتخب هؤلاء يكون ضد خيار المقاومة، وهذا الخيار هو الملجأ الأخير للحزب لتغطية حروبه في سورية وغيرها من البلدان العربية. مع ذلك تشكلت لوائح مضادة في أكثر من 17 بلدة رئيسية في الجنوب، تنافس لوائح الولي الفقيه، بينها واحدة في البازورية مسقط رأس رئيس الحزب الطائفي، حسن نصرالله، كما ترشح آخرون في حوالي 60 بلدة، فيما تحسم صيدا عاصمة الجنوب موقفها إلى جانب تيار المستقبل وخياراته.امتحان الجنوب هو الفصل الأخير في الفحص الذي يجريه الحزب لحجم حضوره، وهو يستغل في سبيله كل شيء؛ المال الإيراني، وفتاوى قم، والقتلى والجرحى، ومزاعم المقاومة، لكن لبنان يتغير، والانتخابات البلدية إشارة أولى.