كتب حازم الامين في صحيفة “الحياة”:
مرة أخرى يتولى لبنان الرسمي تصريف ضائقة “حزب الله”. مصرف لبنان هذه المرة تولى تخريج المأزق. الحكومة الأميركية باشرت تنفيذ عقوبات مالية في حق الحزب، فاكتشف لبنان أن نظامه المصرفي مهدد بأكمله. قبل أشهر قليلة أصدرت الجامعة العربية بيان إدانة للحزب، ووجد لبنان نفسه أنه مدان بهذا القرار فخرج عن الإجماع العربي. وبعد ذلك بأيام، تكرر الأمر في منظمة التعاون الإسلامي.
والحال أن التمييز بين لبنان وحزبه الحاكم أصبح أصعب. فالحكومة التي لا يرأسها الحزب لطالما وقفت في مواجهة نفسها. هي حكومة “حزب الله” رغماً عنها. لا تستطيع شيئاً حيال حقيقة أن وظيفتها الرئيسة التحول إلى جدار حماية للحزب ولوظائفه الكثيرة والمرهِقة. أن يعلن الأمين العام لـ”حزب الله” أنه جزء من الحرب في اليمن، فعلى الحكومة التعاطي مع تبعات هذا الإعلان لجهة مستقبل المغتربين اللبنانيين في الخليج وفي غير الخليج. قبل ذلك، كان على الحكومة التعامل مع إلغاء الحزب الحدود مع سورية وفتح الجبهات من دون حساب للأخطار الهائلة التي جرّتها الخطوة. اليوم أيضاً، على الحكومة التعامل مع تبعات العقوبات الأميركية في حق الحزب وإلا انهار القطاع المصرفي.
نعم، من التعسف أن تشمل العقوبات المالية في حق “حزب الله” لبنانيين قذفتهم أقدارهم إلى مجاورة اقتصاد الحزب، وإلى اتصال مصالحهم بشبكة نفوذه وانتشاره. لكن التمييز صار مستحيلاً: ذاك أن الحزب صار شريكنا الأكبر في كل شيء. في المصارف التي نتقاضى رواتبنا منها، حسابات مجاورة لحساباتنا صارت تحت أنظار الهيئات العقابية الدولية، وفي المستشفى الذي نجري فيه تحاليلنا الدورية، جرحى للحزب يعالجون من جروح أصيبوا بها أثناء قتالهم في سورية. في قرانا أقارب سقطوا أثناء هذا القتال، هم قتلانا أيضاً، والحدود التي قرر الحزب فتحها هي حدودنا.
لم يعد ممكناً أن تقام الحدود بيننا وبين “حزب الله”. صار دولتنا رغماً عنا. انتصر علينا، وها نحن عرضة لما هو عرضة له. وزير ماليتنا ومدير مصرفنا المركزي يتوليان مهمة تجنيب الحزب وتجنيبنا ارتدادات القرارات الأميركية بحقه، تماماً مثلما فعل وزير خارجيتنا في مؤتمري القمة العربية والإسلامية.
“حزب الله” محاصر، إذاً نحن محاصرون! هذه المعادلة تفضي إلى ما يجب أن نصارح أنفسنا به، وأن نبني على هذا الشيء مقتضاه. فالاعتراف، الذي لم نعترفه بأننا صرنا جزءاً من دولة، جر علينا نكرانُنا له نكسات سياسية ونفسية، وأُسقطنا في توقعات لا تساعد على الصمود في وجه ما نحن فيه. فبدءاً من الآن، تقتضي حالنا مصارحة أنفسنا بأننا رعايا في دولة الحزب، وأن توظيفنا في مهماته الكثيرة جارٍ على قدم وساق مصارفنا في خدمة الحزب وحكومتنا وحدودنا ومطارنا. هذا الاعتراف ليس جلداً للنفس، إنما تمرين على تحمل محطات مواجهة مقبلة سنجد أنفسنا أمامها.
ليس في هذا الكلام استباق ولا مبالغة، فواقعة العقوبات الأميركية على “حزب الله” كاشفة لمدى استغراق الحزب في كل أوجه حياتنا. هو جزء من نظامنا المصرفي، وهو أيضاً جهاز أمني وعسكري إقليمي يتولى القتال في أكثر من بلد، إذاً، نظامنا المصرفي ليس بمنأى عن مهمات “حزب الله” من لبنان إلى سورية والعراق واليمن. والواقعية تقضي بأن نُقرر ما إذا كنا سنقبل بعقوبات تطاول الحزب وتطاولنا حكماً، أو أننا سنساعده على تجاوزها، ما يعني أن نتجاوز تبعاتها علينا أيضاً.
قد يبدو صعباً أن نعترف بأن “حزب الله” لم يعد طرفاً يسهل على اللبنانيين الابتعاد من خياراته، لكن الإقدام على هذا الاعتراف مدخل ضروري لمحاسبة من سهّلوا لـ”حزب الله” مهمة التهامنا. فهم أنفسهم من أوهمنا بأنهم سائرون نحو الابتعاد بنا من خيارات الحزب ومن حروبه وشراكاته، وإذا بهم اليوم خط دفاع ضمني عنه بحجة أنهم يدافعون عنا. إنهم مصرف لبنان، وهم الحكومة وهم نحن الخائفون من العقوبات. ليست في هذا الكلام شجاعة ولا دعوة إلى المواجهة، ذاك أننا خاسرون فيها لا محالة، لكنّ فيه طموحاً لعدم التنكر لما نحن فيه، ولما هو آتٍ من استحقاقات.
نعم، نحن مَنْ يقاتل في سورية دفاعاً عن نظامها، فالحزب جزء من حكومة منبثقة من مجلس نيابي نحن مَنْ انتخبه، ونحن من اعتقد بأنه نافس الحزب في الانتخابات وفاز عليه. إذاً، لسنا أبرياء من المهمة وها نحن جزء من نظام مصرفي عرضة لعقوبات بسبب تصنيف الإدارة الأميركية “حزب حكومتنا” إرهابياً، ثم إن خطب الأمين العام للحزب، والتي أعلن فيها أنه جزء من الحرب الإقليمية بدءاً من سورية وصولاً إلى اليمن، إنما هدفت إلى الكشف عن أننا كلنا جزء من هذه الحرب.
وفي مقابل الصمت الذي نمارسه حول حقيقة وضعنا هذا، ها نحن نستحضر مواجهات تافهة على أبواب الانتخابات البلدية وخلالها. فماذا يفيد تيار المستقبل مثلاً أن يحقق فوزاً هزيلاً على “بيروت مدينتي”، وماذا يعني تقدم لوائح التيار العوني والقوات اللبنانية في جبل لبنان وزحلة؟ لبنان في مكان آخر تماماً، وهو في عين عاصفة أخرى لا يجدي معها الصمود في وجه “بيروت مدينتي” أو الانتصار على السيدة مريام سكاف في انتخابات زحلة بل إن الفوز تكريس لقوى أذعنت وسهلت على الحزب قضمنا قطعة قطعة.
لقد أصبح مشهدنا مستغيثين مملاً ومضجراً، الاعتراف أجدى وأكثر حفظاً لكرامتنا، لا يمكن أن نتفادى العقوبات، كما أننا سنعجز عن مواصلة حماية مغتربينا. سنخفق على نحو ما أخفقنا في حماية الحدود، وعلى نحو ما أخفقنا في الابتعاد بأنفسنا من المصائر التي حددها لنا. الحزب سائر بتصميم نحو ما هو سائر إليه، ولن توقفه الأخطار التي ستواجهنا في سياق حروبه الكثيرة. فهو أصلاً لم يسألنا يوماً عما هو ذاهب إليه، وعما نحن مُساقون أيضاً إليه.
هذه حالنا نحن رعايا تلك الدولة. دولة “حزب الله” المتحققة في بلدنا.