كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
كان يُفتَرض أن يشكل الاحتفال بالعام الثاني لانطلاق عمليات التحالف الدولي الجوّية الصيف المقبل موعداً لدحر الدولة التي أنشأها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا. السعي لذلك ما يزال قائماً، ولكن ما تغيّر هو أنّ عقبات كثيرة ظهرت وبعضها كان خارج المتوقع ما يدفع الى الاعتقاد أنّ المهلة ستطول أكثر ممّا كان مخططاً لها.في نهاية الأمر نحن من الشرق الاوسط حيث الاحداث التاريخية اعطت دروساً للجميع بأنّ المفاجآت غير المحسوبة تبقى هي سيدة الساحة في منطقة تختزن شتى أنواع التناقضات والمفارقات والخصوصيات.
وعلى رغم ذلك فإنّ الرئيس الاميركي باراك أوباما يعمل لكي يتمكن من تسجيل انجاز تاريخي اضافي له قبل مغادرته البيت الابيض بعد اشهر يقضي على الاقل بالبدء بتدمير مقوّمات الدولة التي أنشأها تنظيم “داعش”.
لذلك يصرّ البيت الابيض على وضع أسس التسوية السلمية في سوريا ما يؤدّي للشروع في عمليات ضرب “داعش”. وتعمل واشنطن بالتفاهم مع موسكو على خطّ ترويض الأفرقاء في سوريا لادخالهم في اطار التسوية السلمية المطلوبة. وفي الوقت نفسه التحضير لضرب “داعش” وتحديد “ورثتها”.
من هنا ظهر التباين الروسي ـ الايراني حول حلب، وخلال الاسابيع الماضية باشرت موسكو بناءَ قاعدة عسكرية لها في تدمر المنطقة التي أصرّت على اولوية انتزاعها من “داعش” بدلاً من حلب، والتحضير لكي تكون منطلقاً عبر الصحراء شرقاً وتحديداً الرقة لملاقاة القوات الاميركية التي من المفترض أن تتقدّم غرباًَ في اتجاه الموصل فسوريا.
من هنا الزيارة المثيرة التي قام بها الجنرال جوزف فوتيلو قائد القيادة المركزية الاميركية (سنتكوم) التي تتولّى مهمة قتال “داعش” في سوريا والعراق، بعد أن كان يتولّى قيادة العمليات الخاصة فيها.
لكنّ قيادة “داعش” والمكوّنة أساساً من ضباط الحرس الجمهوري في جيش صدام حسين، أعادت رسم خططها العسكرية واولوياتها الحربية تماشياً مع متطلّبات المرحلة.
لذلك باشرت باستهداف المناطق الشيعية في بغداد بسلسلة من التفجيرات الارهابية من جهة لإجبار الحكومة العراقية على سحب جزء من قوتها العسكرية من الموصل ونشره في العاصمة، ومن جهة اخرى لزيادة النزاع والشرخ الحاصل بين الميليشيات الشيعية والاحزاب الشيعية الحاكمة وهو ما أدّى الى اقتحام المنطقة الخضراء لمرتين متتاليتين.
لكنّ الجنرال فوتيل نفسه يعتقد أنّ ما يحصل هو مؤشر الى أنّ “داعش” قرّر “العودة الى جذوره وسلوكه كمنظمة إرهابية”. واضاف “أنّ ذلك لا يعني أنّ التنظيم قد تخلّى عن طموحه لانشاء دولة الخلافة لكنه يمثل منعطفاً جديداً في التكتيكات التي تهدف الى تحويل الانتباه عن خسائره الاخيرة على أرض المعركة”.
وبهذا المعنى فإنّ كلام فوتيل يتلاقى مع كلام مدير الاستخبارات الاميركية السابق جيمس كلابر الذي توقع أن تستغرق جهود استعادة الموصل وقتاً اطول مما هو متوقع ووفق المسار نفسه تملك الاجهزة الامنية الغربية معلومات مقلقة عن سلسلة هجمات ارهابية يستعدّ داعش لتنفيذها خصوصاً في اوروبا.
مسؤول المخابرات الفرنسية باتريك كالغار تحدث بصراحة عن خطورة الوضع، لا بل إنّ “داعش” نفسه اعلن في بيان منشور استهداف مواقع في اوروبا عازياً المسألة بمناسبة قدوم شهر رمضان.
والواضح أنّ “داعش” يريد ايضاً تشتيت التركيز الغربي عنه والتوجّه الى ضرب عمق المجتمعات الغربية والسعي لإثارة مجموعات اسلامية داخل اوروبا بهدف نشر الفوضى وتخفيف الضغط عن الموصل والرقة.
ونتيجة هذه التهديدات وضعت الحكومات الاوروبية اجهزتها في اشد حالات الاستنفار. فبعد حادثة اسقاط الطائرة المصرية والعمل الجاري لتحديد كيفية حصول العملية عاودت المخابرات الفرنسية مسح المطار، وسحبت كلّ عمال نقل الحقائب واستبدلتهم بآخرين وباشرت التحقيق معهم وعلى اساس اعادة توظيف الموثوق منهم بعد اجراء الاستقصاءات اللازمة.
ولبنان بدوره لن يكون في منأى من هذه الفوضى الأمنية. فإذا كان هدف “داعش” تشتيت قوة الضغط الدولي وحماية “دولته” من خلال ضرب المجتمعات البعيدة فإنّ الساحة اللبنانية تشكل عاملَ جذب في هذا الاطار.
وقد أبلغ مسؤولون امنيون غربيون الى نظرائهم اللبنانيين المخاطر التي من المحتمل أن يشهدها لبنان، ما يعني أنّ احتمالات تعرّض لبنان لتفجيرات انتحارية هي احتمالات جدّية.
صحيح أنّ الاجهزة الامنية اللبنانية نجحت في الفترة الماضية في تأمين حماية الاستقرار عبر اعتقال المشتبه بهم وتفكيك خلايا نائمة، لكن في المقابل كان “داعش” يضع في اولوية برنامجه تحضير مزيد من الخلايا وتجنيد مزيد من الانتحاريين في انتظار ساعة الصفر. وهذا معناه أنّ لبنان امام تحدٍّ امني جديد.
لكنّ هذه الصورة المقلقة على قساوتها لا تعبّر فعلياً عن المرحلة المقبلة. فكما ذكرنا سابقاً فإنّ واشنطن متفاهمة مع موسكو على وجوب انجاز تفاهم ولو على اسس التسوية السلمية في سوريا قبل رحيل اوباما، ولو أدّى ذلك الى ترك التفاصيل لاستكمال مجمل التسوية للإدارة الاميركية المقبلة.
ما يعني أنّ الاضطرابات المتوقعة والحرب المستمرة على الجبهات السورية يمكن توظيفها لمصلحة تليين المواقف وتجاوز بعض التعنّت لدى الاطراف المتقاتلة.
مصادر ديبلوماسية مطلعة لا تستبعد أن تكون الحركة ناشطة، ولكن من خلال القنوات الخلفية، بين كلّ من واشنطن وموسكو وطهران وانقرة والرياض بغية ترتيب الصورة. وترجّح هذه المصادر أن تظهر النتائج بعد اسابيع وتحديداً منتصف الصيف المقبل بعدما تكون حرارة الميدان مضافة اليها الاضطرابات الامنية المتوقعة قد ساهمت في تذليل كثير من العقبات.
وكما أنّ للعواصف الامنية تأثيرها على لبنان، فإنّ لمناخ التسويات انعكاساً مباشراً على الازمة الرئاسية التي يعيشها البلد. فالمبادرة التي اطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري أخذت وقتاً كافياً لجسّ النبض حولها داخلياً وخارجياً قبل الاعلان عنها.
ولذلك جاءت فكرة حصول انتخابات مبكرة نهاية الصيف لتلاقي، ولو من بعيد، إنجاز أسس التسوية في سوريا منتصف هذا الصيف، وجاءت الظروف الداخلية لتدفع ايضاً في هذا الاتجاه، فإجراء الانتخابات البلدية جعل من مسألة حصول الانتخابات النيابية أمراً حتمياً لا يمكن الهروب منه.
كذلك فإنّ القوى السياسية والتي باتت أسيرة مواقفها تدرك جيداً أنّ انتظار الموعد الدستوري لحصول الاستحقاق النيابي فيه كثير من المخاطرة، كما انه لن يحمل أيّ جديد ايجابي للوضع اللبناني يمكن أن يرجح خياراً على آخر. أضف الى ذلك أنّ الاهتراء بات يضرب معظم مؤسسات الدولة اللبنانية ما يدفع الى القلق العميق والتوجّس من عامل الوقت.
وفي التوازنات الداخلية أظهرت التطورات الأخيرة على الساحة المسيحية امكانية اختلال التوازنات السياسية الداخلية الهشة. كما أنّ الانتخابات البلدية بينت في وضوح حال الملل السياسي التي يعيشها الشارع المسيحي ما يدفعه الى البحث عن بديل يقنعه.
وحزب الله قد يكون راقب بقلق التفسّخ الذي ظهر على مستوى “التيار الوطني الحر” ما يعني أنّ اختصار الوقت يصبح مسألة مطلوبة فكيف إذا كان سيلاقي ظروفاً اقليمية مؤاتية.
وفي المعلومات أنّ تيار “المستقبل” الذي كان من اشد المعترضين على حصول الانتخابات النيابية قبل الرئاسية، بات يميل الى القبول بمبادرة بري. اولاً، لاعتماد قانون الانتخاب الحالي، وثانياً، لاختصار الوقت امام عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة.
لكنّ المشاورات الجارية الآن هي حول النص الذي سيلزم الجميع بالمشاركة في جلسة انتخاب الرئيس وبين اعتماد قانون ملزم يجري إقراره في مجلس النواب.
لكنّ المسألة ليست سهلة. فـ”التيار الوطني الحر” يدرس طريقة تأمين الـ 70 نائباً وهو العدد المطلوب لإنتخاب النائب ميشال عون.
كذلك إمكانية جعل حزب الله يتعاون انتخابياً مع “القوات اللبنانية” لضمان مقاعد اضافية لهم، فيما حزب الله ينظر الى الانتخابات النيابية من خلال التوازنات السياسية للسنوات الاربع المقبلة واللعبة الاقليمية اكثر منه من خلال تأمين ظروف الفوز برئاسة الجمهورية ومن ثمّ العودة الى نقطة الصفر.
اضافة الى اسئلة اخرى حول طريقة الاقتراع لبعض المجموعات في الاستحقاق النيابي فضلاً عن ضمان مواقف الكتل بعدها في التصويت الرئاسي.
لكن لا شك أنّ ثمّة شيئاً تحرّك يمكن أن يؤدّي الى انفراج ما في تشرين الاول المقبل.