كتب أحمد محسن في صحيفة “الأخبار”:
في البلدة الكبيرة صوتٌ واحد متفق عليه يقول إنها أصبحت أكثر تصالحاً مع محيطها.
السيّدة المسنّة ليست وحدها من تفعل ذلك. حتى الشبان أيضاً، والمارّون في سياراتهم الجديدة. تلك السيارات التي يتباهى سائقوها بها، كما لو أنها مدعاة لذلك حقاً. حتى الذين يضعون النظارات الشمسية الأنيقة، ويستمعون إلى موسيقى الهيب هوب، كما لو أنهم يقيمون احتفالاً باليوم الانتخابي الطويل، فيخرجون لاستعراض ذكوريتهم أمام الصبايا اللواتي انهمكن في توزيع اللوائح. الرجال بدورهم، وأحياناً الصغار. جميع سكان القليعة، إن مرّوا في ساحة القليعة، حيث يقبع المركز الإنتخابي، سينظرون إلى تمثال العذراء المظلل بشجرة وارفة، ويرسمون إشارة الصليب على صدورهم. يحنون رؤوسهم على عجلٍ بعد الانتهاء من صلاةٍ خاطفة، ويتابعون طريقهم.
يتطلب الوصول إلى القرية المرور بابنتها الصغيرة، التي تحاذيها، قرية “برج الملوك”. في القرية الوادعة، على كتف مرجعيون، تتنافس لائحتان مكتملتان للوصول إلى مجلس بلدي مؤلف من تسعة أعضاء. أولاهما تحمل اسماً يبدو مأخوذاً من برنامج للأطفال، وهو “لائحة برج الملوك أحلى”، والثانية تحمل اسماً زجلياً لطيفاً هو الآخر: “لائحة برج الملوك بالقلب”. حسب ما يقول سكان القرية الذين انتخبوا قرب كنيستهم، ليست لديهم أية معارك هنا. يرددون كلاماً مسرحياً لبنانياً عن العائلات والمحبة وتهنئة بعضهم بعضاً.
أما في القليعة، فالرؤوس حامية. يُحكى عن لائحتين مدعومتين من العائلات، ويتردد كلام لبناني تقليدي عن الانتخابات البلدية، خاصةً في ضرورة الوصول إلى نتيجة واضحة هذه المرة. في المرة السابقة، تعطلت البلدية، بسبب تعنت الرئيس السابق، ورفضه الاستقالة كما كان متفقاً عليه، بعد مرور ثلاث سنوات من ولايته. وبما أن الرئيس لم يستقل، “استقالت العائلات”، وفرطت البلدية. رغم ذلك الرؤوس حامية، ولدينا لائحة “مدعومة من 14 آذار، ولائحة من 8 آذار”، على ما يقول أحد مناصري لائحة “القليعة حرّة”. أخبرناه، من باب المزاح، أنه بعيد نسبياً عن العاصمة، وأن هاتين التسميتين ليستا دارجتين اليوم، فظهرت عليه معالم الاستياء.
أعاد صياغة المعركة على نحوٍ مناسب: لائحة 14 آذار، ضدّ الغرباء. وطبعاً، اللائحة المقابلة لا تضمّ غرباء، بل تضمّ أشخاصاً من القليعة أيضاً. سألنا مناصراً جديداً للائحة القليعة الحرّة، فكان عقلانياً وقال إنها معركة بين أهل القليعة، ثم أردف بلا مناسبة: ليست لدينا أي مشاكل مع جيراننا، نحترمهم، ويحترموننا.
في البلدة الكبيرة صوتٌ واحد متفق عليه يقول إنها أصبحت أكثر تصالحاً مع محيطها وقد تبدو جملة الشاب اعتراضيةً للوهلة الأولى، بيد أن للقليعة المسيحية جيراناً يختصرون النسيج اللبناني الرومنسي. على مقربة منها، إبل السقي المختلطة مسيحياً ودرزياً. راشيا الفخار ليست بعيدة أيضاً. صعوداً، يمكن الوصول إلى حاصبيا الدرزية، وعلى مقربةٍ منهم هناك كفرشوبا وكفرحمام بغالبيتهما السنية. وحولها، بطبيعة الحال، يوجد عدد وافر من القرى الشيعية المنتشرة في محافظة النبطية لتشكّل غالبيةً واضحة من الناحية الديموغرافية.وإن كان للعامل الديموغرافي دور حاسم في تشكيل المشهد الجيوسياسي للمنطقة، فإن ذلك لا ينعكس بالضرورة على العلاقات الاجتماعية بين الناس، خاصةً في منطقةٍ ما زالت ريفية. رغم أن المصارف كلها افتتحت فروعاً في القليعة تحديداً، ورغم أن كاريتاس لبنان وجدت أن أنسب مكانٍ لها لتقديم العون للمحتاجين هو هناك، فإن القرية ما زالت قريةً، وعصي عليها أن تصبح مدينة. وهذا ليس إلا نافذة وحيدة للنظر إلى المحيط. النافذة اتسعت تدريجاً بعد الحرب السورية. القليعة الحرّة، القليعة الغد، القليعة الأمس، مع أمل، أو دون أمل، القليعة مع تدخل مِن خارج البلدة، أو من دونه، إلخ… التسميات تسميات بلدية. التسمية البلدية هذه، المتفشية على طريقة المسرح الرحباني، فعل مرحلي تنتهي تداعياته غداً. وبينما تُفرز أصوات المقترعين في صناديق الاختلاف الظاهر، يبقى في البلدة الكبيرة صوتٌ واحد متفق عليه. صوتٌ يقول إنها أصبحت أكثر تصالحاً مع محيطها. ليس هذا مدخلاً إلى سيرةِ ماضيها، ولا محاولة لقراءة المستقبل في ضوء انتماءات المخاتير في السياسة. وليس هذا موقفاً سياسياً يحاول تقويم البلدة أو تصنيفها، أو توظيف واقعها الأقلوي لغايات دعائية. إنه مجرد مشهد. الانتخابات فرصة لكي يطل العابر في القرية من شرفاتها الرحبة على واقع أعمق. غالباً ثمة زهور وقدّيسون على شرفات القليعة. وفي الواقع، لم يتخلّ القليعيّون عن إفراطهم في لبنانيةٍ ترنو إلى “السعيد عقليّة”، تزايد على العونيين في حدّتها، وعلى القواتيين في الافتخار بالقتال الذي لا يدعو إلى ذرة فخر. ولم يصبحوا أصدقاء حميمين لحزب الله، أو لحركة أمل، ولا لأي قوة أخرى في المنطقة. أهل القليعة هم أهلها، ولديهم خياراتهم وحساباتهم. وليس هذا توقيتاً مناسباً للبحث عمن تغيّر قبل الآخر: القليعة أم محيطها. المعلومة المهمة في هذا الوقت أن كثيرين من أهل القليعة قالوا إنهم ينتخبون الآن ضدّ حزب الله، أو معه، ولكنهم، وبقراءة أقلوية ــ شعبوية أيضاً، يقولون بنبراتٍ لا تخلو من الحذر، والابتسام أحياناً، إن الفارق بين الحزب والحركات الإسلامية الأخرى الصاعدة في المنطقة، ساطع بالنسبة إليهم. وهكذا، يفسرون علاقتهم بالمحيط، من عدة أبعاد. البعد الأول: الحرب السورية، وأين سيذهبون لو كان حزب الله مثل التنظيمات الإسلامية المتطرفة في سوريا. البعد الثاني: لبنانيتهم ومسيحيتهم التي تمنحهم شعوراً ورغبةً شبه معلنة بالتميّز. البعد الثالث: البقاء ومقوماته. أحد صالونات البلدة، ويدعى La Belle، كُتب بخطٍ واضح على واجهته: نستقبل المحجبات. وهذا ليس تفصيلاً في بلدةٍ كالقليعة.