Site icon IMLebanon

انهيار الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة

وسط مدينة "رالي" عاصمة ولاية كارولينا الشمالية
وسط مدينة “رالي” عاصمة ولاية كارولينا الشمالية

شون دونان وسام فليمنج

ألفريد بيري يتوهّج وجهه عندما يصف كيف وصل وهو في عمر 19 سنة إلى مدينة رالي في تشرين الأول (أكتوبر) 2014، قادما من “حزام الصدأ” في أوهايو وبيده شهادة الدراسة الثانوية وخطط كبيرة للاستفادة من الاقتصاد المحلي المُزدهر.

يقول عن عاصمة ولاية كارولينا الشمالية: “كانت مثل قوس قزح الذي يؤدي إلى هذا الجرّة من الذهب. كنتُ أشعر كما لو أن هناك الكثير من الكنوز الخفية”.

بعد 19 شهرا فقط، بيري يعيش في ملجأ للمشردين. عمل البناء ذو الأجر الجيد الذي كان يأمل فيه لم يتحقق وكان ينتقل من وظيفة إلى أخرى، مُكافحاً لدفع إيجاره في موكب من الشقق المشتركة مع غيره. في سوق العمل حيث الطلب الحقيقي هذه الأيام هو على مصممين ووظائف تكنولوجية أخرى (من ذوي الخبرات)، فهو يرى أحلامه تتلاشى.

على مدى عقود، كانت رالي وغيرها من المدن في المنطقة الجنوبية من الولايات المتحدة تجتذب العمال من المراكز الصناعية المتلاشية في الشمال والغرب الأوسط، واعدةً بفرص عمل وتكاليف معيشة أقل. لكن كما تُظهر تجربة بيري، حتى القصص الناجحة مثل رالي تُظهر علامات على العسر الاقتصادي.

تآكل الطبقة المتوسطة في أمريكا وما نتج عن ذلك من إحباط الناخبين الذي ساعد في تغذية الحملة الرئاسية لكل من الجمهوري دونالد ترامب وبيرني ساندرز، عضو مجلس الشيوخ الديمقراطي الشعبوي من ولاية فيرمونت، غالباً ما يتم تصويره على أنه ظاهرة جلبها انهيار وظائف التصنيع ذات الأجر الجيد على مدى العقود الثلاثة الماضية الناتج عن زيادة الأتمتة والمنافسة من الصين.

لكن دراسة جديدة من مركز بيو للأبحاث، غير الحزبي، أجراها بالتشاور مع “فاينانشيال تايمز”، تُشير تماماً إلى أي مدى كانت الأضرار كبيرة على الطبقة المتوسطة في أمريكا وكيف أصبحت الهياكل الطبقية في البلاد منقسمة.

تراجع الدخل المتوسط في أربعة أخماس المناطق الحضرية الـ 229 التي درسها مركز بيو، مع انخفاض حصة البالغين متوسطي الدخل في 203 مناطق. في الوقت نفسه، ارتفعت نسبة البالغين ذوي الدخل المنخفض في 160 منطقة حضرية بين عام 1999 وعام 2014 في حين ارتفعت حصة الأُسر ذات الدخل المرتفع في 172 منطقة.

المناطق الحضرية التي حلّلها مركز بيو، لم تشهد أي منها هذا القرن نموا سكانيا أسرع من مدينة رالي. جنباً إلى جنب مع المناطق المجاورة في ديرهام وريسيرتش ترايانجل بارك، يُحتفى بها باعتبارها مثالا على الطريقة التي تستطيع بها المدن تحويل نفسها إلى مراكز ابتكار حيوية للعلوم مدفوعة من التكنولوجيا، أو إلى مركز رئيس “لاقتصاد المعرفة” الجديد في أمريكا.

يقول إنريكو موريتي، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، ومؤلف كتاب “الجغرافيا الجديدة للوظائف”: “إنها واحدة من قصص النجاح الأكثر إثارة خلال الأعوام الـ 20 أو حتى الـ 30 الماضية”.

انخفاض الدخل

مثل أوستن في تكساس، أو سياتل، موطن مايكروسوفت، في ولاية واشنطن، يقول موريتي إن رالي كانت فيما مضى اقتصادا محليا صغيرا “مع قليل من الابتكار، وقليل من الوظائف، وقليل من التكنولوجيا”. لكن “عندما تنظر إلى تلك المدن اليوم فهي بعض مراكز الابتكار العالمية الأكثر إثارة للاهتمام”.

الأمر الأساسي الذي قام عليه تجديد مدينة رالي هو مكانها في وسط مجموعة من جامعات الأبحاث الشهيرة التي ساعدتها على اجتذاب الشركات في مجال التكنولوجيا الحيوية ومجالات أخرى تبحث عن القوة العاملة المُتعلّمة.

في المقابل، تلك الشركات جذبت العاملين المتعلّمين الأكبر سناً الذين يبحثون عن وظائف وتحسين نوعية الحياة، لإعادة تشكيل مجتمعاتها. مدينة الضواحي، كاري، كما تقول النكتة المحلية، هي في الواقع اختصار لـ Collecting Area for Relocated Yankees التي تعني “منطقة تجميع اليانكيز المُعاد تموضعهم”.

لكن في حين أن عدد سكان رالي يستمر في النمو، تُظهر بيانات جديدة من مركز بيو أن النمو السكاني القوي لم يُترجم بالضرورة على شكل دخول أعلى لسكانها الجُدد. لقد تم تقاسم مزايا الطفرة بشكل غير متكافئ.

الدخل المتوسط السنوي المُعدّل وفقاً للتضخم لأسرة مكونة من ثلاثة أفراد في مدينة رالي انخفض أكثر من عشرة آلاف دولار إلى 74283 دولارا في عام 2014، نزولا من 85784 في عام 1999، حتى مع نمو عدد سكانها بمقدار ثلثين ليُصبح أكثر من 1.3 مليون نسمة، صعودا مما كان أقل من 800 ألف بقليل.

الأكثر إثارة للدهشة هو أن فئة الدخل الوحيدة التي نمت كحصة من السكان كانت تلك الأكثر فقراً بينهم. في عام 1999 واحد من خمسة من سكان المنطقة الحضرية كانوا يعيشون في أُسر تجني ثُلثي متوسط الدخل أو أقل من ذلك. وبحلول عام 2014 ذلك الرقم ارتفع إلى واحد من أربعة.

وحتى في الوقت الذي تسعى فيه مدينة رالي لاجتذاب خرّيجي الجامعات، تظهر بيانات مركز بيو أن الطبقة المتوسطة في المنطقة الحضرية – أي الذين يعيشون في أُسر تجني دخلا يراوح بين 42 ألف دولار و125 ألف دولار – تقلّصت كحصة من السكان من 55 في المائة في مطلع هذا القرن إلى 50 في المائة في عام 2014.

نانسي ماكفارلين، رئيسة بلدية مدينة رالي، تُجادل بأن مثل هذه الأرقام توضّح أن المدينة معرّضة بقدر أي مكان آخر للاتجاهات الأمريكية الأوسع مثل تقلّص الطبقة المتوسطة أو صعود الفقر في المناطق الحضرية.

وتقول: “في كثير من الأحيان نجد أنفسنا بالفعل عالقين في الجوائز وكل تلك الأمور. لكن يجب أن نبذل جهوداً واعية للتأكد من أن نجاحنا وازدهارنا سيناله الجميع”.

مدينة رالي ليست المعقل الوحيد للاقتصاد الجديد الذي يتعامل مع مثل هذه المشاكل. في المناطق المُحيطة بسان فرانسيسكو، الصديقة للتكنولوجيا، ومنطقة سان خوسيه المجاورة، انخفض كل من الدخل المتوسط ونسبة الطبقة المتوسطة من عدد السكان.

في أوستن، المدينة المنافسة لمدينة رالي، انخفض الدخل المتوسط لأسرة مكونة من ثلاثة أفراد إلى ما دون 74 ألف دولار بقليل، هبوطا من 78 ألف بقليل في عام 1999.

تفسيرات الدخل الراكد والأعداد المتزايدة من الفقراء تختلف. في مدينة مثل رالي، هي على الأقل جزئياً حالة من العرض والطلب.

يقول مختصو اقتصاد إن تدفق العاملين المتعلّمين إلى الولايات الجنوبية في أمريكا عمِل ببساطة على تخفيض الأجور من خلال زيادة عرض العمالة.

اقتصاد الوظائف المؤقتة

جيمس سولز، رئيس وحدة التنمية الاقتصادية في مدينة رالي، يقول إن انخفاض الأجور هو أيضا علامة على ثقافة الشركات الناشئة المتنامية في المدينة ومشهد المقاهي والمطاعم المزدهر، وجميعها تدفع أجورا للعالمين أقل بكثير من وظائف تكنولوجيا المعلومات حتى في الوقت الذي تمنح فيه المدينة ديناميكية مُضافة تُساعد على اجتذاب شركات تدفع رواتب أعلى.

مع ذلك، ليس هناك شك في أن مدينة رالي تواجه مشكلة فقر متنامية مدفوعة من عدد السكان الأصليين ووصول المهاجرين الأقل تعليماً، مثل بيري، الذين يبحثون عن الوظائف المتدنية في مجال البناء والخدمات، في حين أن فرص العمل الحقيقية هي في مجال التكنولوجيا أو الرعاية الصحية وغيرها من الصناعات ذات المهارات العالية.

المجموعات التي تعمل مع الفقراء في مدينة رالي تقول إنهم أكثر انشغالاً من أي وقت مضى، حتى بعد مرور أعوام على الأزمة المالية العالمية عام 2008/2007 وفترة الركود التي تلت ذلك.

يقول بيتر موريس، طبيب الأطفال الذي يشغل منصب المدير التنفيذي في منظمة إيربان مينستريز، التي توفر الطعام والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات للمحرومين في المدينة: “رأينا في عام 2015 أشخاصا أكثر من أي وقت مضى”.

وفي كل أنحاء مقاطعة وايك، حيث تقع مدينة رالي، تُظهر إحصاءات الولاية أن عدد الأشخاص الذين يتلقّون مساعدات غذائية أكثر من ضعف الذين كانوا يتلقّونها قبل أزمة عام 2008. في الوقت نفسه، ارتفع معدل الفقر في المقاطعة من 7.8 في المائة في وقت التعداد السكاني لعام 2000، إلى 11.5 في المائة العام الماضي.

وحتى بالنسبة للذين عثروا على عمل في مدينة رالي، فإن عدم وجود سكن بأسعار معقولة يُضاعف الصعوبات التي يواجهها الذين هم في الطرف السفلي من سلّم الدخل.

في “شبكة الضيافة بين الأديان” في مقاطعة وايك، التي توفّر الإسكان في حالات الطوارئ للعائلات، هناك افتتاح مُقبل لشقة لديها منذ الآن عشر عائلات على قائمة الانتظار، بحسب دانييل باتلر، مديرتها التنفيذية.

تقول باتلر: “أكبر عامل هنا هو عدم وجود إسكان بأسعار معقولة وعدم وجود عقارات للاستئجار بأسعار معقولة في مدينة رالي”.

جزء من هذا يعود إلى نجاح المدينة. في رالي، كما هي الحال في كثير من المدن الأمريكية، المهنيون من جيل الألفية والمتقاعدون من جيل مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية يُريدون على نحو متزايد العيش في المدينة، ما أدى إلى رفع أسعار العقارات. لكن هذا يُشكل تحدّيا للمسؤولين في المدينة الذين يعرفون أن أسعار العقارات الرخيصة – والوفرة من المنازل الجديدة – لطالما كانت ميزة تنافسية، وهو تحدّ كان من السهل التصدّي له عندما كانت الضواحي مكان جذب أكبر، والحل السهل يكمُن في إنشاء مساكن جديدة.

الشهادة الجامعية

آرون رين، الزميل الأول في معهد مانهاتن، وهو مؤسسة فكرية، يلاحظ أن نتيجة طفرات العقارات في المدن الكُبرى مثل سان فرانسيسكو كانت إخراج الجميع، باستثناء الأغنى، من الأحياء الفقيرة في المدينة.

يقول: “فقط لأن هناك مكانا مثل رالي ينمو ويزيد عدد السكان ويزدهر بطريقة ما، وليس مُكلفاً بقدر سان فرانسيسكو، فهذا لا يعني أنهم اكتشفوا الحل في دمج الناس الأقل تعليماً في النجاح الأمريكي”.

بيري شهد هذا بأم عينيه. أكبر مشاكله تبقى عدم حصوله على تعليم جامعي في اقتصاد يتطلب شهادة على نحو متزايد.

فمنذ الانتقال إلى مدينة رالي، عمل في محل لبيع الخشب، وصيدلية ومتجر لخبز البيجل – وكان يعاني من أجل التمسك بكل وظيفة من تلك الوظائف. ووجد أن الشهادة الجامعية، أو أن تكون على الأقل في الطريق نحو الحصول على واحدة، هو أحد المؤهلات الأساسية حتى للوظائف التي تتطلب مهارات مُتدنية.

يقول بيري: “كنت في مقابلة عمل من أجل وظيفة مبيعات في مجال التجزئة، وكانوا يقولون عفوا، تود الذهاب للجامعة؟ فأقول الواقع أني لم أذهب إلى الجامعة. ومن ثم يقولون عذرا، نحن نبحث نوعاً ما عن أشخاص لديهم خبرة جامعية أكبر”.

مثل كثير من الأمريكيين المحرومين اقتصادياً، المُشرّد البالغ من العمر 21 عاماً يرى أملاً في اقتصاد ترامب التقليدي.

يقول بيري لا بد أن ترامب رجل الأعمال الملياردير “اقتصادي جيد. هذا هو التفسير الوحيد”.

لكنه يأمل في خطة تتسم بطابع دولي أكثر من معظم مؤيدي ترامب. إذا لم يكن بمقدور رالي أن تعرض عليه الفرص التي تناسب أبناء الطبقة الوسطى، التي يحتاج إليها شاب لا يحمل شهادة جامعية، عندها ربما ألمانيا تستطيع أن تفعل ذلك.

يقول: “الدراسة الجامعية مجانية في ألمانيا”. ولهذا السبب فهو يحاول إنعاش مهارة مهمة من أيام دراسته في المدرسة الثانوية. “درست اللغة الألمانية لمدة سنتين”.