Site icon IMLebanon

1200 متر بين الجيش و”داعش”

 

 

 

كتب ميشال ابو نجم في صحيفة “الشرق الأوسط”:

الطريق الترابية من ثكنة رأس بعلبك العسكرية شرق لبنان باتجاه جرود البلدة والتلال المحيطة بها ومن ورائها الحدود السورية ضيقة وصعبة في وقت واحد. وسيارة “الهامر” العسكرية تثير زوابع الغبار التي يقتحم الأعين والأنوف ويظهر للصحافي الباريسي الذاهب في جولة استطلاعية على مواقع الجيش ضمن مجموعة صحافية ضيقة لمجموعة من الصحافيين الفرنسيين كانت “الشرق الأوسط” بينهم. كم أن الحياة العسكرية الميدانية خشنة وخطرة! وكم أن الدفاع عن الحدود ومنع التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها “داعش” يتطلب كثيرًا من التضحيات.

الجولة الميدانية “لا تخلو من الخطورة” وفق ما يقوله ضابط لبناني يرافق الوفد الصحافي الذي انطلق في السيارات العسكرية بعد أن التقى في ثكنة رأس بعلبك قائد الفوج الثاني العميد مرسيل بالوكجي. والعميد بالوكجي يعرف الصحافة ويعرف متطلباتها وحاجتها إلى عرض دقيق للوضع الميداني، وهو ما قام به على مرحلتين: الأولى في غرفة الاجتماعات وبالاستناد إلى الأرقام والبيانات والصور، والثانية في غرفة العمليات؛ حيث تتجمع أجهزة الكومبيوتر الناقلة لصور الميدان بفضل الأبراج المنصوبة ذات التقنيات العالية والكاميرات المركبة العاملة ليلا نهارا. وبفضل مجموع هذه الأجهزة، فإن القيادة الميدانية تعرف تماما ما يدور في المنطقة التي تتحمل مسؤولية الدفاع عنها؛ حيث ينتشر فوج الحدود البري الثاني الذي يقوده العميد مرسيل بالوكجي. وبفضل التجهيزات التي ساهمت بها الولايات المتحدة والأبراج الـ12 التي بنيت بدعم وتجهيز بريطانيين، لم تعد التنظيمات المعادية قادرة على مفاجأة وحدات الجيش مثلما حصل قبل ستة أشهر، عندما نجحت مجموعة من “داعش” في السيطرة على “التلة الحمراء” في جرود رأس بعلبك حيث قتلت ثمانية جنود بينهم ضابط من البقاع.

يقول العميد بالوكجي إن مهمة الفوج الدفاع عن الحدود ومنع تقدم التنظيمات الإرهابية وتوفير الأمن للمواطنين والقضاء على عمليات التهريب. ويعرض قائد الموقع تفاصيل القوات الموجودة بإمرته التي لا يمكن نشرها لأسباب عسكرية ومكامن القوة لوحداته التي ليست فقط محض عسكرية، ولكنها “خصوصا” عائدة لـ”الدعم الكامل” الذي تحظى به من سكان المنطقة ولـ”التلاحم” الداخلي للقوة المتنوعة جغرافيا ودينيا.

بعد العرض النظري، جاء زمن الاطلاع الميداني، وبعد “الأوامر العسكرية” الخاصة بمنع التصوير الدقيق لمواقع الجيش وانتشار قواته، امتطى الوفد السيارات العسكرية بإمرة ضابط تقدم الموكب والوجهة تلة “أم خالد” أحد أهم المواقع العسكرية المواجهة لـ”داعش” في جرود رأس بعلبك، الذي لا يبعد كثيرا عن “التلة الحمراء”. وبعد نحو نصف ساعة من الخضات على طريق الكسارات التي تختفي في الشتاء؛ بسبب السيل النازل إليها من فوق وصلنا إلى موقع البرج رقم 10 بالغ التحصين. الموقع دائري الشكل ومحصن تحصينا كافيا، ويعلوه البرج الذي يتم الصعود إليه من خلال مجموعة سلالم صعبة التسلق. وفوق، من غرفة معدنية ضيقة، تنداح أمام الرائي التلال المتداخلة التي تفضي في البعيد إلى السلسلة الفاصلة بين لبنان وسوريا والواقعة على بعد 9 كيلومترات. وتقع منطقة القلمون في المقلب الثاني وهي شهدت معارك عنيفة بين الجيش السوري والقوات الرديفة له والتنظيمات المعارضة. أما أقرب موقع لـ”داعش” فإنه لا يبعد سوى 1200 متر “خط نار” عن موقع البرج. وتنتشر حول الموقع القطاعات العسكرية المختلفة ومهمتها الدفاع عنه ومنع تقدم مقاتلي “داعش” الذين يعمدون بين فترة وأخرى إلى إطلاق النار على موقع أم خالد والتلة الحمراء من رشاشات 12.7 ملم أو يستخدمون مقذوفات أخرى.

يشرح لنا الضابط شادي “اسم مستعار”، أن الحماية التامة متوافرة لموقع “أم خالد” الذي يضم مجموعة من الأجهزة الإلكترونية والرادارات والكاميرات الحرارية التي تكشف كامل المنطقة. كذلك، فإنه يستفيد من الحماية التي يوفرها له موقع آخر لا يبعد أكثر من 300 متر عن الموقع الأول وميزته أنه أكثر ارتفاعا. فضلا عن ذلك، فإن حقولا من الألغام قد تم زرعها لحماية موقع “أم خالد” وهي حال المواقع الأخرى.

بيد أن الأهم أن الوحدات العسكرية المرابطة في هذا الموقع مؤهلة لأن تعتبر أي هدف متحرك “هدفا معاديا”، وبالتالي فإنها مؤهلة لإطلاق النار عليه. وبالفعل، فعند وجودنا في الموقع، بدأت الدبابات برمايات وصفها الضابط المشار إليه بأنها “استباقية” وقام بها فريق الدبابة؛ لأنه «لحظ تحركات لـ”(داعش)” في المواقع المقابلة. وبحسب العميد بالوكجي، فإن قواته “تستهدف مواقع (داعش) يوميا”. ويروي الضابط شادي أن الداعشيين ينزلون من الجبال إلى المزارع القائمة في المناطق السهلية ومنها “مزرعة غنام” للتزود بالطعام وأخذ بعض رؤوس الماشية، مضيفا أن السكان اللبنانيين كانوا أساسا قليلي العدد فيها، وقد أخلوها حفاظا على أمنهم وبطلب من السلطات العسكرية، وبالتالي فإن كل من يتحرك فيها يمكن اعتباره “هدفا معاديا”.

هذه الشروحات على أهميتها لا تجيب عن سؤال رئيسي: لماذا يترك الجيش اللبناني منطقة مستطيلة بعرض 9 كيلومترات تحت سيطرة “داعش” ولا يسعى لاستردادها منه، خصوصا أن أفراده يمكن أن يزيد كثيرهم على 1200 فرد يسعون للسيطرة على قرى رأس بعلبك والفاكهة والقاع.. وبالتالي فإنهم يشكلون تهديدا لأمن القوات المرابطة ولأمن المواطنين على السواء؟ السؤال طرحناه، وكان الجواب أن أمرا كهذا تقرره القيادة وكذلك الحكومة، وأن القوات الموجودة ميدانيا تنفذ “التعليمات”.

ما التكتيكات العسكرية التي يعتمدها هذا التنظيم؟ يجيب الضباط الموجودون في الموقع أن “داعش” تعتمد تكتيكات متنوعة منها نصب الكمائن في محاولة منها لأسر جنود، وزرع العبوات المتفجرة، وتلغيم الطرقات، ومباشرة عمليات الهجوم بدفع أعداد كبيرة من قواتها، وباتباع تكتيكات “الموجات المتعاقبة”، وكل ذلك يدور داخل الأراضي اللبنانية، لكن القوة العسكرية المرابطة في هذا الموقع منذ خمس سنوات، وكذلك الوحدات الأخرى الموجودة في منطقة عرسال، تعلمت كيف تواجه تكتيكات التنظيمات الإرهابية، وهي تعمد إلى توجيه ضربات استباقية لإرباك صفوفها، كما لا تتردد في القيام بعمليات كوماندوز خلف الخطوط، لكن يبدو واضحا الترابط الحاصل بين الجبهات من على جانبي الحدود ما يجعل مهمة وحدات الجيش اللبناني مرشحة لأن تطول شهورا إن لم يكن لسنوات.