رينوكا راياسام
منذ سقوط ما كان يعرف بـ”الستار الحديدي”، قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، تبنت بولندا الرأسمالية على النمط الغربي بترحاب كبير.
حققت بولندا، خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة نموا متسارعا بشكل كبير، مع تضاعف متوسط دخل الفرد خلال تلك الفترة. وفي الآونة الأخيرة، تجنّبت بولندا، التي انضمّت إلى الاتحاد الأوروبي عام 2014، ركوداً اقتصادياً خانقاً عانت منه العديد من الدول الأوروبية.
واستناداً إلى تقرير البنك الدولي لعام 2015، والمعنون “انجاز التعاملات التجارية في بولندا”، أصبح من السهل في ذلك البلد تحقيق تعاملات تجارية ناجحة، والبدء في تأسيس شركة جديدة.
وقد أدى انتخاب حكومة ذات شعبية مؤخراً إلى تزايد قلق قادة المال والأعمال بشأن ما يمكن أن ينتج عن ذلك من زيادة قيمة الضرائب، وضبط قواعد العمل بمزيد من الإحكام.
بالرغم من ذلك، لم يؤدِ هذا إلى تباطؤ الاقتصاد هناك، حتى إن ذلك النموذج الاقتصادي المفضل في منطقة وسط أوروبا يمكنه أن يصبح القوة المحركة للقارة بأكملها، حسبما جاء في تقرير عام 2015 لشركة ماكينزي الاستشارية.
لا يبدو التقدم الحاصل في بولندا جلياً للعيان أكثر مما يتبدى في عاصمتها الاقتصادية والسياسية، وارسو. ولأن العاصمة دُمرت وأعيد بناؤها عدة مرات، فقد لقبت باسم “المدينة العنقاء”.
وآخر مرة كانت فيها وارسو مدينة للأطلال هي عند نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت الذي أعيد فيه ترميم البلدة القديمة في وارسو، المعروفة باسم “ستيري مياسترو”، ليطابق بدقة هيئتها الأصلية من القرون الوسطى، فإن الحكومة الشيوعية التي تلت الحرب العالمية شيدت أيضاً مشاريع سكنية ومبان، ومكاتب على الطراز السوفيتي.
والنتيجة هي مدينة ذات خليط غير متناغم من الفن المعماري يوطد موقع وارسو باعتبارها نقطة تحول ما بين أوروبا الغربية والشرقية.
وفي وقتنا الحاضر، استهوى الموقع المركزي للمدينة، إضافة إلى القوى العاملة المتعلمة وغير المكلفة، شركات مثل غوغل وفيسبوك لتأسيس فروع فيها.
واختارت شركة “هيم” لتجارة الأثاث على الإنترنت، ومقرها برلين، بولندا لتكون مركزا آخر لإنتاج الأثاث. أما فريق عمل وارسو التابع للشركة فهو مسؤول عن إنتاج قطع الأثاث حسب الطلب، وإعادة تصنيع المنتجات الموجودة في المخازن، حسبما كتب مارتن فيغوم يوهانسن، المؤسس المشارك لشركة “هيم”، في رسالة بالبريد الإلكتروني.
ويقول فيغوم: “اعتقد أن الجمع بين الجودة العالية، والسعر المناسب، والموقع الاستراتيجي جعل من بولندا مكاناً رائعاً لإنتاج الأثاث.” وأضاف أن الناس في بولندا “مجدون في العمل ويتوقعون تقييماً عالياً لعملهم المنجز.”
عندما يتعلق الأمر بالطعام والأمور الثقافية، نجد أن مدينة كراكوف جنوبي بولندا قد استحوذت على اهتمام كبير، لكن العاصمة وارسو لا تزال تجذب الانتباه بشكل متزايد وبوتيرة أسرع. ومع استمرار توسع مدينة وارسو وتغيرها، تظهر متاجر ومطاعم ومتاحف وفنادق جديدة. كما أن وتيرة التغيير هذه تثير اهتمام الزائرين من أمثال يوهانسن، الذي يسافر إلى بولندا ثلاث أو أربع مرات في السنة.
ويقول يوهانسن: “في كل مرة أزورها، يبدو لي وكأن المدينة قد تغيرت إلى حد ما، نحو الأفضل”.
هوسٌ ثقافي
في الوقت الذي تجد فيه أبناء مدينة وارسو يتمتعون باللطف والكياسة، فهم يميلون أيضا إلى الجدية. ومع هذا فليس من الصعب بناء علاقة وطيدة مع زملائك البولنديين، كما يقول مارسين ويزلوفسكي، مدير التعاقدات لدى شركة “ذا هوم ديبو”.
ويقول ويزلوفسكي، الذي غالباً ما يسافر خارج البلد حسب متطلبات عمله: “ليس محظورا أن تتحدث في أمور الدين أو السياسة”. ومع كون أكثرية سكان البلد من الكاثوليك ولا يزالون من المحافظين، إلا أنهم لا يشعرون بالحرج أو الخجل من طرح أرائهم بصراحة عما يدور من أحداث حالية.
وينطبق ذلك على التعبير عن الآلام أيضاً. ويقول ويزلوفسكي: “كما يحب البولنديون أيضاً أن يظهروا التذمر والشكوى. فالتذمر رياضة وطنية،” بالنسبة للكثيرين هناك.
الوصول إلى هناك
أصحبت بولندا ضمن دول منطقة “شنغن” التي تضم غالبية دول الاتحاد الأوروبي منذ عام 2007، وهو ما يعني أن حملة الجوازات الأوروبية لا يحتاجون إلى تأشيرة دخول إلى البلد، وكذلك الحال مع أصحاب الجوازات الأمريكية.
لا يبعد مطار “وارسو شوبان”، تيمّناً بالمؤلف الموسيقي فريدريك شوبان، سوى عشرة كيلومترات عن مركز المدينة. ولا يزال المطار يواكب النمو المتسارع لوارسو، حيث يمر عبره سنوياً عدد متزايد من المسافرين، وتتقاطع فيها رحلات دولية عديدة.
وتكلف سيارة أجرة من المطار إلى المدينة حوالي 50 إلى 60 زلوتي (12 إلى 15 دولار أمريكي) وتستغرق الرحلة قرابة نصف ساعة.
الأمور المالية
لم تعتمد بولندا عملة اليورو حتى الآن، وليست هناك خطط آنية للتخلي عن عملتها المحلية المعروفة باسم “زلوتي”، والتي تعني بالبولندية “الذهبي”.
ويعد سعر صرف عملة زلوتي في هذه الأيام في صالح المسافرين الحاملين لعملات اليورو أو الجنيه الاسترليني أو الدولار الأمريكي، ويعادل كل دولار أمريكي ما يقرب من 3.94 زلوتي.
إلا أن المدينة ترحب كثيراً بحاملي بطاقات الائتمان أيضاً. وفي الوقت الذي تقبل فيه معظم سيارات الأجرة والمطاعم والحانات الدفع ببطاقات الائتمان، فمن المناسب أن يكون في متناول اليد بعض الأموال السائلة لدفع البقشيش مثلا، وهو عادة يكون في حدود 10 في المئة من القائمة الكلية.
مكان الإقامة
شُيد المبنى الذي يضم فندق “إتش 15” في أواخر القرن التاسع عشر كمسكن خاص، ومر بعمليات تحديث عديدة. وفي عشرينيات القرن الماضي، حوّله الاتحاد السوفيتيي ليكون مقرا لسفارته.
وكان الجيش الألماني قد استولى عليه إبّان الحرب العالمية الثانية، مما حافظ عليه من الدمار بعد حول الألمان بقية أجزاء وارسو إلى خراب ودمار. وقد افتُتح الفندق مرة أخرى في عام 2013 بعد سبع سنوات من عمليات الترميم والإصلاح، وهو مؤثث بقطع أثاث عصرية إيطالية، وبأعمال بولندية حديثة لفن البوب، مع الإبقاء على بعض اللمسات التاريخية.
وحافظ مركز المؤتمرات، الذي كان في يوم ما قاعة كبرى، على الأعمدة الأصلية التي تظهر رمز المطرقة والمنجل السوفيتي. وللفندق 46 غرفة جناح، ضمن أربعة أبراج على شكل شعاع ينطلق من فناء ذي سقف زجاجي، إضافة إلى قاعات تستخدمها الشركات لطرح منتجاتها أو عقد مؤتمرات صحافية. ويكلف إيجار الغرفة ما لا يقل عن 100 دولار أمريكي في الليلة الواحدة.
ولمن يريد ترفاً من الطراز القديم، فإن فندق بريستول المجاور للقصر الرئاسي لم يزل يستقبل الضيوف الملكيين وغيرهم من المشاهير منذ عام 1901. وقد جُدد التصميم الداخلي للفندق ليعيد إلى الأذهان التصميم الأثري، بما في ذلك الثريا المدهشة في ردهة الفندق. وتبدأ تكلفة تأجير إحدى غرفه، وعددها 168 غرفة، أو أجنحته البالغ عددها 38، 140 دولاراً أمريكياً لليلة الواحدة.
ولمن يريد البقاء لفترات أطول فإن “فندق إقامة الأميرة دايانا” في وارسو يضم 46 شقة بمطابخ مجهزة بالكامل وإضافات عملية مثل خدمة الغسيل وكي الملابس وأجهزة تشغيل أقراص الفيديو الرقمية، ويبدأ سعر الليلة فيها من 75 دولاراً أمريكياً.
الطعام
يستمتع يوهانسن بتناول طعامه خارج المنزل عندما يكون في وارسو، ولكنه يحذر من الخروج مع الزملاء البولنديين، إذ أن ذلك يحتاج إلى بعض الصبر والتحمل.
ويقول يوهانسن: “لا تندهش إذا ما دعوت عميلا أو زميلاً بولنديا لشرب كأس ووجدت أنه يطلب زجاجة كاملة من مشروب الفودكا مع ما يصاحبها من الماء، حتى وإن كان ذلك اليوم هو الثلاثاء”، حسب قوله.
وتتضمن قائمة الطعام مواداً عصرية وأخرى من التقاليد البولندية، ويقدَّم كل منها باقتراحين لما يناسبها من مشروب الفودكا. كما أن حجرة تناول الطعام البهيجة، ذات الطابقين، تتيح اختياراً جيداً لتناول عشاء عمل مناسب.
لتذوق الأكلات البولندية التي تزداد شعبيتها، قم بحجز طاولة في مطعم “أتيلير أمارو”، المطعم البولندي الوحيد الحائز على تصنيف “نجمة ميتشلان”. ويقع المطعم في متنزه لازينكي بوارسو.
وبينما لا نجد نقصاً في المطاعم العالمية في وارسو في هذه الأيام، يقول فويتشيخ أمارو، كبير الطهاة بالمطعم إن طموحه كان يهدف لمساعدة بولندا في إعادة اكتشاف الأكلات التقليدية التي فقدت في عقود الشيوعية ونسيها البولنديون في فترة الازدهار الاقتصادي.
ويقول أمارو: “قضينا العشرين سنة الماضية في محاولة تغطية المسافة التي تبعدنا عن باقي أوروبا”. وهو يريد الآن من البولنديين أن يشعروا بالفخر بثقافتهم في مجال الأطعمة والطهي.
ويضيف: “لفن الطهي البولندي إمكانات هائلة، ومهمتنا هي تحقيقها”، حسب قوله. إن ما يقرب من 95 في المئة من مكونات الطهي التي يستعملها أمارو في مطعمه مصدرها منتجات بولندية محلية.
وتشمل لائحة الأطعمة البولندية فطيرة الجبن على شكل كمثرى، وكابتشينو بزيت البلوط، ولحم الغزال بالحنطة السوداء مع الكراميل، وفراولة مجففة عن طريق التجميد. وتتغير لائحة الأطعمة يومياً وفقا للمنتجات المتوفرة خلال فصول السنة.
في أوقات الفراغ
يمتد النمو المتسارع لوارسو إلى الجانب الثقافي فيها أيضاً، حيث تُفتتح متاحف ومعارض جديدة بشكل منتظم. ويعتبر “متحف تاريخ اليهود البولنديين” ومتحف “انتفاضة وارسو” من المعالم الثقافية المهمة التي توثق الماضي المظلم للمدينة.
ولكن للاطلاع على أشياء أكثر بهجة، يمكنك زيارة “متحف وارسو للفنون المعاصرة” الواقع في متجر سابق للأثاث يعود لستينيات القرن الماضي.
تقع أفضل مناظر المدينة في “قصر العلوم والثقافة” المجاور لمحطة قطار وارسو الرئيسية. كان المبنى في الأساس هدية مقدمة من جوزيف ستالين في خمسينيات القرن الماضي.
والمبنى عبارة عن ناطحة سحاب، إذ يبلغ ارتفاعه 231 متراً، ويتضمن اليوم تشكيلة من حانات ومتاحف وأماكن لإقامة الحفلات الموسيقية وسينما وكازينو وغرف مؤتمرات واجتماعات. وعليك أن تشتري تذكرة لتزور شرفة الطابق الـ30 لكي ترى وارسو بكامل تألقها ومجدها.