Site icon IMLebanon

المال مقابل لا شيء .. حلم يوشك أن يتحول إلى حقيقة

شاحنة تفرغ حمولة من العملة المعدنية فئة خمسة سنتات في ميدان الفيدرالية في العاصمة السويسرية، بيرن، خلال مناسبة نظمتها اللجنة الخاصة بمبادرة الدخل الأساسي في سويسرا.
شاحنة تفرغ حمولة من العملة المعدنية فئة خمسة سنتات في ميدان الفيدرالية في العاصمة السويسرية، بيرن، خلال مناسبة نظمتها اللجنة الخاصة بمبادرة الدخل الأساسي في سويسرا.

جون ثورنهيل ورالف أتكينز

يُصوّت الناخبون المُحافظون تقليدياً في سويسرا الشهر المُقبل على فكرة مخالفة للمنطق إلى حد ما، وهي توزيع دخل أساسي غير مشروط بقيمة 30 ألف فرانك سويسري 30275 دولارا سنوياً لكل مواطن، بغض النظر عن العمل، أو الثروة، أو مساهمتهم الاجتماعية.

وتُشير استطلاعات الرأي إلى أن الاستفتاء في الخامس من حزيران (يونيو) سيخسر بشكل كبير. حتى إن أدى نوع من الاضطراب الانتخابي إلى الموافقة بشكل غير متوقع على المقترح من قِبل الناخبين، فمن المؤكد أن يتوقف من قِبل 26 إقليما التي يتعين عليها تنفيذه.

لكن حقيقة أن واحدا من أكثر البلدان ازدهاراً في العالم يُجري مثل هذا التصويت تلقي الضوء على كيف أن حُلم المفكّرين المتطرفين منذ قرون يتسرب إلى الساحة السياسية. في بلدان مختلفة مثل البرازيل وكندا وفنلندا وهولندا والهند، الحكومات المحلية والوطنية تختبر فكرة إدخال شكل من أشكال الدخل الأساسي في الوقت الذي تكافح فيه لإصلاح دولة الرعاية الاجتماعية غير المناسبة والتعامل مع التعطّل الاجتماعي الناجم عن التغيير التكنولوجي.

دانيال هيني، صاحب المشاريع المرح من بازل، الذي هو من المؤيدين الرئيسيين للمبادرة السويسرية، يرى أن دولة الرعاية الاجتماعية الحديثة توفّر الدعم الاجتماعي الأساسي لكنها تفشل في التكيّف مع احتياجات وقيم عصرنا. المشكلة هي أن أنها مُكلفة جداً ومرهقة، على افتراض أن قيمة المواطن مُحددة فقط من خلال قيمته كموظف وتعتمد على الضغط على الإمكانات من قِبل دولة تدخليّة بشكل مفرط.

قال: “نظامنا الاجتماعي موجود منذ 150 عاماً وهو قائم على استجابة بسمارك إلى الجيل الأول من التصنيع. فكرتنا بسيطة. نحن نريد جعل المشروط غير مشروط. الدخل الأساسي الشامل يتعلّق بتحويل السلطة إلى المواطن”.

دعم المواطنين

فكرة توفير المال مقابل لا شيء لجميع المواطنين تعود إلى قرون من الزمن وقد احتضنتها طائفة دينية متطرفة قبل أن تعاود الظهور في الآونة الأخيرة. في القرن العشرين، دعمها مُفكّرون من اليسار، مثل جون كينيث جالبريث ومارتن لوثر كينج، باعتبارها وسيلة لتعزيز العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. لكنها كانت مدعومة أيضاً من بعض الليبراليين ومختصي الاقتصاد من اليمين، بمن فيهم ميلتون فريدمان، بوصفها وسيلة لتقييد الدولة القسرية واستعادة الخيار الفردي والحرية.

رغم أنه يُعتبَر أمرا لا يُصدق اليوم، لكن الرئيس ريتشارد نيكسون اقترب جداً من تنفيذ ضريبة دخل سلبية (بديل للدخل الأساسي) في أنحاء الولايات المتحدة كافة عام 1970. مبادرة نيكسون، التي هي جزء من “خطة مساعدة العائلات” التي كان يريد تطبيقها، كانت مدعومة بقوة من مجلس النواب، لكنها فشلت في مجلس الشيوخ، حيث اعتبرها بعض الديمقراطيين غير طموحة بما يكفي، بينما رأى كثير من الجمهوريين أنها جريئة فوق الحد.

في الأعوام الأخيرة تزايد الاهتمام بهذه الفكرة إلى حد كبير بفضل الثورة التكنولوجية التي تهزّ أسواق العمل في أنحاء العالم كافة. وفي كثير من البلدان، الاقتران بين نمو دخل الأسر المتوسط وبين التوسّع في الناتج المحلي الإجمالي أوجد شعورا بأزمة الطبقة المتوسطة، الأمر الذي أثار الغضب بشأن عدم المساواة وصعود الشعبوية في الولايات المتحدة وأوروبا. وسواء كان ذلك بسبب شعور بالذنب من الاضطرابات التي تُسببها في المجتمع، أو مجرد احتفال بالتفكير الابداعي، بعض أصحاب المشاريع في وادي السليكون أحبوا فكرة الدخل الأساسي الشامل ووصفوها بأنها “توزيع أرباح رقمي”.

في مؤتمر في زيوريخ هذا الشهر عن التعطيل التكنولوجي والتغيير الاجتماعي، حذّرت مجموعة من المتحدّثين الأمريكيين من مزيد من الاضطراب في سوق العمل بسبب أتمتة المهام الروتينية، وتطبيق التعلّم الآلي، وظهور الروبوتات.

بالإشارة إلى مثال واحد فقط من عديد من الأمثلة، أندي ستيرن، الرئيس السابق للاتحاد الدولي لموظفي الخدمة، قال إن إدخال الشاحنات والسيارات ذاتية القيادة من شأنها القضاء على الملايين من فرص العمل. في الوقت الحالي، هناك نحو 3.5 مليون سائق شاحنة في الولايات المتحدة، يُشكّلون أكبر فئة وظيفية في 29 ولاية. وأضاف ستيرن، مؤلف كتاب “رفع الحد الأدنى”، الذي سيصدر قريباً والذي يدعم الدخل الأساسي الشامل كحل جزئي: “هناك احتمال حدوث أكبر اختلال للوظائف في تاريخ العالم”.

إيريك برينجولفسون، الأستاذ في معهد ماساتشيوسيتس للتكنولوجيا والمؤلف المُشارك لكتاب “عصر الآلة الثاني” قال إن “الزيادة التكنولوجية” المُفرطة تجري إلى درجة أنها تحوّل بسرعة وعد الخيال العلمي إلى حقيقة واقعة. لكنه أصرّ على أن التكنولوجيا لا تزال أداة البشر ويُمكن أن تكون بمثابة فائدة كبيرة طالما تُدار بشكل صحيح. ومع تولي الروبوتات معظم العمل، رسم صورة “لأثينا رقمية” حيث الناس لديهم الوقت للتركيز على الرياضة والفنون.

كما حذّر أيضاً من احتمال حدوث اضطراب هائل إذا لم تتوقع المجتمعات هذه التحدّيات واستجابت لها على نحو كافٍ. وقال: “أستطيع رؤية الثورة والعنف وفشل الكثير من الشركات الكبيرة. نظامنا الاقتصادي والسياسي لم يتكيّف مع هذا العالم الجديد على الإطلاق ونحن بحاجة إلى مواجهة ذلك”.

روبرت رايخ، وزير العمل السابق في إدارة كلينتون الذي يُدرّس في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، قال إن الثورة الرقمية تزيد من انعدام الأمن الاقتصادي وعدم المساواة. تطوير تطبيقات استدعاء سيارات الأجرة، مثل أوبر وليفت، جلب راحة كبيرة للزبائن لكنه أيضاً كان يوجد “سوقا فورية للمزادات” على اليد العاملة.

وقال إن انعدام الأمن هذا أيضاً يُغذّي أزمة الطلب الكلي في الاقتصاد، مُضيفاً أنه في الآونة الأخيرة تلقى زيارة رئيس إحدى مجموعات التكنولوجيا الذي يشعر بالقلق حول من سيملك المال الكافي لشراء منتجات شركته في غضون 10-15 عاماً.

التكاليف والفوائد

تقسيم أكثر مساواة لثمار الثورة التكنولوجية من شأنه إحياء ذلك الطلب وفي الوقت نفسه توفير فائدة اجتماعية على نطاق أوسع. وقال رايخ إن الهدف في جميع المجتمعات الغنية ينبغي أن يكون توفير مستوى أساسي من موارد الرزق، لتمكين الناس من فعل المزيد مما يريدون، وفعل القليل مما لا يريدون. لكل هذه الأسباب “أعتقد أن الدخل الأساسي الشامل أمر لا مفر منه”.

حتى لو كان كثير من المختصين يتّفقون على حجم وشدة التحدّي التكنولوجي والاقتصادي، إلا أنهم لا يزالون منقسمين حول الرد الاجتماعي والسياسي المناسب. ولا يزال هناك إجماع أقل حول كيف يُمكن تنفيذه وتمويله.

مقاومة فكرة إدخال الدخل الأساسي الشامل في سويسرا – استطلاع للرأي أجرته “جي إف إس” أخيرا وجد أن 71 في المائة من المستجيبين كانوا يميلون لرفضها – تُعتبر مفيدة. ليس واضحاً أبداً أن الأنموذج الاجتماعي السويسري مُحطّم وبحاجة إلى إصلاح. فسويسرا تبقى واحدة من الاقتصادات الأغنى والأكثر إنتاجية في العالم. نظام التلمذة الصناعية فيها الذي يُشاد به كثيراً، يولّد تدفقا مستمرا من الموظفين المُدرّبين جيداً ويُوفر الفرص للجميع. معدل البطالة فيها 3.6 في المائة فقط.

فانيا إليفا، الزعيمة النقابية السويسرية، ترى من الجدير مناقشة الفوائد المحتملة من الدخل الأساسي الشامل ومبادئ مجتمع عادل، لكنها لا ترى حاجة إلى مثل هذا التغيير الجذري. تقول: “نحن ننتقد الدخل الأساسي الشامل. فلدينا نظام اجتماعي في سويسرا ناجح”.

ويبقى زعماء نقابات العمال في أماكن أخرى حذرين بالقدر نفسه من إدخال الدخل الأساسي الشامل، حيث يخشون أنه سيُستخدم فقط من قِبل السياسيين اليمينيين لتمزيق دولة الرفاهية القائمة. من خلال تحديد أسعار الفائدة بمستوى منخفض جداً وسحب فوائد الرفاهية الأخرى، يُمكن أن ينتهي الأمر إلى إيذاء الناس الذين كان مُصمماً لمساعدتهم أكثر من غيرهم. بحسب تعبير أحد المشاركين في مؤتمر زيوريخ، هناك خطر من “تسمين الضفادع لإطعام الثعابين”.

كثير من التنفيذيين أيضاً غير متحمّسين للفكرة، ويعترضون على فك الارتباط بين المكافأة الاقتصادية والمجهود. وتجدر الإشارة إلى أن دعم الدخل الأساسي الشامل في حدّه الأدنى في الأقاليم السويسرية الناطقة باللغة الألمانية في الغالب، حيث أخلاقيات العمل قوية بشكل خاص.

أولريش سبيسهوفر، الرئيس التنفيذي للشركة الهندسية AAB، يقول: “يجب أن يكون هناك مستوى أساسي من الرعاية الاجتماعية للناس المُحتاجين، لكن باستثناء ذلك المكافآت الاقتصادية ينبغي أن تكون قائمة على إيجاد قيمة اقتصادية فعلية”.

دفع التكاليف

تُقدّر الحكومة أن التنفيذ الكامل للدخل الأساسي الشامل سيكلف 208 مليارات فرانك سويسري، نحو ثلاثة أضعاف الإنفاق الفيدرالي السنوي الحالي البالغ 67 مليار فرانك سويسري. وحتى عند تنفيذه، لن يحل محل جميع الخدمات الاجتماعية القائمة، مثل الرعاية الصحية للمسنين.

ألان بيرسيت، عضو الحزب الديمقراطي الاشتراكي في الحكومة السويسرية، وصف مبادرة الدخل الأساسي الشامل بأنها “طوباوية”، قائلاً إنها تحتاج إلى تمويل إضافي كبير لا يقل عن 25 مليار فرانك سويسري.

وأضاف في مقابلة: “الدخل الأساسي غير المشروط سيكون تجربة محفوفة بالمخاطر. ليس واضحاً كيف سيتم تصميم هذا الدخل الأساسي من قِبل البرلمان، أو كيف سيتم تمويله. العواقب الدقيقة ليست معروفة”.

أنصار الدخل الأساسي الشامل يتقبّلون كثيرا من هذه الانتقادات ويُطلقون مشاريع تجريبية للمساعدة في الإجابة على الاعتراضات. واحدة من المبادرات الأكثر إثارة للاهتمام موجودة في فنلندا وسيتم طرح الدخل الأساسي على نطاق وطني إذا أثبتت التجربة فاعليتها.

ستبدأ حكومة يمين الوسط هذا العام بتقديم دفعات شهرية معفاة من الضرائب تبلغ 550 يورو إلى عينة عشوائية مكونة من عشرة آلاف راشد في سن العمل ضمن تجربة لمدة عامين. الهدف هو معرفة آثار الدخل الأساسي على حوافز العمل وخيارات الحياة وكيف يتفاعل مع أنموذج الرعاية القائم. مدينة أوتريخت، و19 بلدية أخرى في أنحاء هولندا كافة تُجري تجارب مماثلة.

ماثيو تايلور، الرئيس التنفيذي للمعهد البريطاني، RSA، الذي يبحث عن حلول عملية للتحدّيات الاجتماعية، والذي نشر أخيرا دراسة عن جدوى الدخل الأساسي الشامل. يرى أن المجتمعات ستكون بحاجة إلى تُصبح أكثر ابتكاراً في مواجهة الثورة التكنولوجية الأحدث. على وجه الخصوص، يجب العثور على طرق أكثر مرونة لدعم العاملين بدوام جزئي، أو الذين يرغبون في إعادة التدرّب، أو العناية بأطفالهم أو آبائهم المسنين.

وقال: “ما يُثيرني بشأن الدخل الأساسي الشامل هو أنه يُمكن أن يكون بمثابة مُحفّز لتحوّل على نطاق أوسع في المواقف العامة. أعتقد أن الدخل الأساسي الشامل من المحتمل أن يُساعد في التغلّب على المواقف التي لدينا بين المُكافحين والمتهرّبين. ويُمكن أن يُساعد الدولة على تمكين الناس من عيش حياة مستقلة”.

وفي حين أنهم يعترفون بالهزيمة شبه المؤكدة في الاستفتاء المقبل، إلا أن أنصار الدخل الأساسي الشامل في سويسرا يعتقدون أن حملتهم تُشير إلى بداية نقاش عالمي عن الدخل الأساسي، وليس نهايته. قد يكون من السابق لأوانه إدخال الدخل الأساسي الشامل اليوم، لكن جاذبيته ستنمو في الوقت الذي تتعلّم فيه المجتمعات تفضيل الإبداع على الإنتاجية.

وبغض النظر عن النتيجة، يشعر هيني بالسعادة لأن كل صحيفة سويسرية تُناقش مبادئ الدخل الأساسي بشكل محموم، معتبرا النقاش السويسري مثل فيلم دعائي قصير للحدث الرئيس “والأفلام القصيرة الدعائية دائماً ما تنتهي بالعبارة: يأتي قريباً”.