حيدر الحسيني
برزت أمس في نقاشات اليوم الثاني والأخير للمنتدى الإقليمي لإغاثة اللاجئين وإعادة إعمار سوريا، مجموعة من الأفكار اللبنانية المبنية على تجربة إعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية، وكان أبرزها ما طرحته رئيسة الهيئة العامة لمجلس إدارة المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس، الوزيرة السابقة ريا الحسن، من ضرورة إعداد خطة اقتصادية شاملة تواكب عملية إعادة الإعمار، وما قابلها من طرح للأمين العام لجمعية مصارف لبنان، مكرم صادر، بضرورة أن تتوازى مع الخطة الاقتصادية عملية إعادة تأهيل للمنشآت والإمكانات المُتاحة، بغية الاستفادة منها في سياق إعادة تمكين البلد عمرانياً واقتصادياً.
الجلسة أدارها سفير لبنان السابق لدى الجامعة العربية، ناصيف حتّي، تحت عنوان «كيف يبدو المستقبل؟»، وتحدث فيها أيضاً رئيس قسم السياسات الاقتصادية في إدارة التنمية الاقتصادية والعولمة في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، خالد أبو اسماعيل، رئيس تحرير النشرة الاقتصادية الإلكترونية «سيريا ريبورت»، جهاد اليازجي، إضافةً إلى رئيس مجلس أمناء جامعة العزم في طرابلس، عبد الإله ميقاتي.
الحسن ركزت في مداخلتها على الشق المالي من إعادة الإعمار، وتناولت المسألة من خلال 7 دروس أمكنها استخلاصها من التجربة اللبنانية، وهي بإيجاز:
1 أن أي عملية إعادة إعمار لا بد من أن تترافق مع وضع خطة اقتصادية شاملة تواكبها، بما فيها تبني المؤسسات الدولية لهذه الخطة، بما يصحح مواضع خلل الاقتصاد ويخلق فرص العمل ويسهّل بيئة الأعمال، لما لدور القطاع الخاص من أهمية في تمويل عملية إعادة الإعمار.
2 ضرورة بذل كل جهد ممكن من الحكومة السورية من أجل استقطاب مساعدات عن طريق الهبات والقروض الميسرة. هذا ما لم يتوافر للبنان في البداية، فاضطر إلى الاقتراض لتمويل إعادة الإعمار بالعملة المحلية وبفوائد مرتفعة، وهذا ما أقصى القطاع الخاص عن التمويل، ما ولّد بالتالي عجزاً مالياً في ظل تدني الإيرادات الضريبية، وأفضى في النهاية إلى مراكمة الدين العام. وقد عقدنا مؤتمرات باريس الأول والثاني والثالث في محاولة لوضع حد لهذه الحلقة المفرغة.
3 يجب ابتكار طريقة ملائمة للمزج بين دوري القطاعين الخاص والعام، بما يحفز النمو ويخفف الأعباء عن الخزينة العامة، ويؤمن خدمات أفضل بأسعار أدنى، كما يؤمّن تمويلاً لإعادة الإعمار. لم يقر مجلس النواب اللبناني بعد مشروع الشراكة بين القطاعين حتى الآن.
4 اي خطة يجب أن تأخذ في الاعتبار الجانب الاجتماعي، خاصة صحياً وتربوياً، لأكبر شريحة من السوريين. نحن الآن في لبنان نطلق بعض المبادرات لمكافحة الفقر، لكن هذا النوع من الجهود ننصح بتضمينه داخل إمكانات الدولة الإنفاقية على المستويين المتوسط والطويل الأمد.
5 إذا وضعت الحرب أوزارها، ستشهد سوريا حماساً كبيراً، بل هجمة قوية، من المانحين الدوليين لمدّها ببرامج التمويل، لكن هذا الحماس يُخشى من ان يؤدي إلى ازدواجية في المشاريع المطروحة، لذلك من المهم وضع لائحة تترجم الخطة إلى مجموعة من الأولويات. من هذا المنطلق، يجب تنسيق الجهود ضمن هيكلية موحدة تابعة للحكومة تعين المانحين على اختيار المشاريع من دون تضارب.
6 – لا بد من إعطاء أكبر مروحة من الخيارات للمانحين في ما يتعلق بآلية التمويل، وعدم حشرهم بخيارات محددة. نحن في لبنان، مثلاً، استحدثنا فكرة مرنة يستطيع المانحون من خلالها بناء جسر أو تشييد طريق معين.
7 يجب إرساء بنية تحتية إحصائية لوضع الخطط على أُسس رقمية شفافة وآنية.
المصارف اللبنانية
أما صادر فقد لاحظ، بدايةً، أن مسألة خطة إعادة الإعمار لا بد وأن تتلازم مع وضع خطة إعادة تأهيل، بوصفها خطوة مهمة لإنجاح خطة إعادة الإعمار، لأنه مهما كان حجم الدمار، لا يزال في سوريا بالحد الأدنى بنسة تحتية وقطاع خاص، وبالتالي فإن خطة إعادة تأهيل البنية التحتية والقطاع الخاص توفر بنية أولية تمهّد لعملية إعادة الإعمار.
ولفت إلى أن البنك الدولي كان قد اقترح على لبنان سابقاً تنفيذ عملية إعادة تأهيل، وقد بوشر بتنفيذها عملياً، لكنها لم تصل إلى خط النهاية.
واعتبر صادر أن تمويل إعادة الإعمار في سوريا ستكون صعبة لأسباب متعددة، منها أن المدخرات تركت سوريا خلال 20 عاماً مضت، حتى قبل الحرب الدائرة رحاها حالياً.
وهو يعتقد أن مشكلة إطلاق التنمية في سوريا تكمن في عدم وجود النقد وتوافر العملة اللازمة، وهي التي تشكل المطلوبات لدى المصارف، بينما يشكل التسليف الموجودات، في حين أن النقد الذي تخلقه المصارف هو اساس النقد في العالم، علماً أن النقد المتداول في الاقتصاد لا يشكل سوى 4 في المئة تقريباً من حجم النقد الكلي.
كما يلاحظ صادر ضعف بنية التحويلات في المصارف والسوق المالية، خاصة بعدما تراجعت الموجودات من 25 مليار دولار تقريباً إلى مليارين و500 مليون دولار تقريباً في الوقت الحاضر، بسبب دمار الحرب والخسائر المتلاحقة في قيمة العملة السورية، موضحاً أن القطاع المصرفي كله عبارة عن 14 مصرفاً خاصاً و6 مصارف عامة، حصة هذه الأخيرة من السوق تعادل حصة المصارف الخاصة، اي مناصفة، في حين أن بين الخاصة 7 مصارف لبنانية لديها نصف القطاع المصرفي الخاص في سوريا.
كما تمتلك المصارف اللبنانية في سوريا 120 فرعاً من اصل 240 فرعاً مصرفياً داخل هذا البلد، أي أنها تملك نصف الفروع الموزعة على مختلف المناطق.
من هنا، يعتقد صادر أن الحضور المصرفي اللبناني القوي داخل سوريا، رغم تراجعه بفعل الحرب، لا يزال يؤمّن التمويل للقطاع الخاص السوري المهاجر من سوريا، مستفيداً من متانة القطاع المصرفي في الوطن الأم، لبنان، والفروع المصرفية في الخارج.
هذه العوامل، من شأنها، بحسب صادر، أن تضمن للمصارف اللبنانية حضوراً قوياً داخل سوريا في المرحلة المقبلة، وعودة أسرع من غيرها، ومن شأن ذلك أن يُعيد إلى سوريا مؤسسات وزبائن كبار غادروها بسبب الحرب.
صادر يعتقد أن بإمكان المصارف اللبنانية أن تواكب إعادة التأهيل من خلال مشاريع تتعلق بالقطاع الصناعي، مشيراً إلى أن مصانع الإسمنت جرى تمويلها سابقاً عبر مصارف لبنانية وعربية.
ولفت إلى أن المصارف اللبنانية لديها تجربة غنية بلعب دور الوسيط بين الحكومة والمؤسسات الدولية، كما هي الحال مع مؤسسة التمويل الدولية (IFC).
وختم صادر مداخلته بالقول: «لن نكون وحدناً في إعادة إعمار سوريا، لكن سيكون للمصارف اللبنانية دور فعال في عملية التمويل».
الفقر واللامركزية.. وطرابلس
المداخلات الأُخرى ركزت على 3 مسائل مهمة، منها ما تناول الفقر في سوريا، والتحولات المتوقعة في ضوء قدرة الحكومة المركزية السورية على التحكم بموارد البلاد، إضافةً إلى الدور المرتقب لمدينة طرابلس في عملية إعادة إعمار سوريا مستقبلاً.
النقطة الأولى تناولها ممثل «إسكوا» خالد أبو اسماعيل، محذراً من أن نسبة الفقر المدقع في سوريا بلغت 50 في المئة، في حين أن دائرة الفقر العام تشمل 80 في المئة من الشعب السوري، ما يعني أن المجتمع كله في حالة فقر، منبهاً إلى أن سياسات مكافحة الفقر الحالية لم تعد تؤتي ثمارها، لأن المطلوب والضروري وضع برامج لمكافحة الظاهرة ضمن الخطط الاقتصادية الكبرى.
أكد أبو اسماعيل أهمية التركيز على المشاريع الصناعية في سوريا، مع تأمين استجابة داخلية سريعة من ناحية العرض، تلافياً لتكرار الأخطاء السابقة في بعض الدول، بما يؤدي إلى حالة من الضعف.
يؤكد ممثل إسكوا أهمية إرساء عقد اجتماعي وسياسي جديد قبل الحديث عن القضايا الاقتصادية، إذ لا يمكن، برأيه، خوض غمار إعادة الإعمار بالمؤسسات القائمة حالياً كما هي، تلازماً أيضاً مع توفير السلامة والأمن للمواطنين السوريين.
اليازجي، من جهته، أكد على أهمية العقد الاجتماعي الجديد سياسياً ومؤسساتياً، إلى جانب المكوّنات الاخرى. لكنه يخالف الرأي القائل بأن التمويل سيكون متاحاً لإعادة إعمار سوريا، معتبراً أن الأمر مرتبط بمن سيكسب الحرب: فإذا ربحت إيران وروسيا، هل هما قادرتان على تأمين تمويل بعشرات وربما مئات مليارات الدولارات؟ وإذا ربحت السعودية الحرب، فهل بإمكانها تأمين السيولة اللازمة على ضوء انخفاض سعر النفط؟ البنك الدولي يتحدث عن تحديات مالية تواجه الدول المنتجة للنفط. لذلك، لا بد، برأيه، من التفكير بإعادة إعمار بقدرات تمويلية ضعيفة.
ولفت اليازجي إلى أن إعادة الإعمار يجري تداولها حالياً وكأن الوضع في سوريا سيعود إلى ما كان عليه من سيطرة للحكومة المركزية، لكنه سأل: هل ستكون الحكومة مركزية في دمشق هذه المرة؟ مشيراً إلى أن ثمة أوضاعاً اجتماعية في بعض المناطق، كدير الزور وحلب، وخاصة في الأرياف لا تُبدي رغبة في العودة إلى سيطرة مركزية من العاصمة، في حين أن معظم الموارد الطبيعية الآن موجودة في أماكن لا تسيطر عليها الحكومة حالياً.
ختام الجلسة كانت مداخلة لميقاتي أشار فيها إلى توجّه دولي قائم حالياً ينطوي على أهمية كُبرى مرتقبة لمدينة طرابلس، شمال لبنان، في عملية إعادة إعمار سوريا بعد الحرب، ودعا إلى عقد مؤتمرٍ ثانٍ ملحقٍ بهذا المؤتمر لبلورة الأفكار والخروج برؤية أكثر وضوحاً على مختلف الصعد.