Site icon IMLebanon

الحوكمة الرشيدة في ظل اللامركزية


جاسم عجاقة

يُعتبر الحُكم أكثر شرعية في ظل احترام المبادئ الديموقراطية. ويبقى الهدف الأول لأي حكم، التطور والإنماء الإقتصادي والاجتماعي، لكن في ظل الفساد المُستشري في المُجتمع اللبناني، ما هي حظوظ اللامركزية في النجاح بالنهوض الإقتصادي والاجتماعي؟ وما هو دور الحوكمة الرشيدة في دعم اللامركزية؟

إن نسبة احترام المبادئ الديموقراطية في المجتمعات الإنسانية تدّل على مُستوى تطور هذه المُجتمعات، ومدى فعّالية الحكم فيها. وعلى رأس هذه المبادئ نجد الشفافية، التعددية، مشاركة المواطن في صنع القرار، التمثيل الصحيح، مُساءلة المسؤولين في الشؤون العامة، الملاحقة القانونية في حال تمّ إثبات التقصير والفساد.

وتُعرّف الحوكمة بمجموعة الإجراءات التي يتمّ من خلالها ممارسة السلطة، بهدف التطور الإقتصادي والاجتماعي. وتُصبح الحوكمة محلّية في حال كانت الشؤون العامة التي تخص منطقة مُعينة، يديرها ممثلون محليون تمّ انتخابهم.

هناك وجوه عديدة لإدارة الشأن العام، وأهمها اللامركزية التي تُعرّف بنقل صلاحيات من السلطة المركزية إلى السلطات المحليّة في ما يخص الشأن العام. هذا المفهوم المُعقد يتمتّع بأوجه عديدة بحسب نوع السلطات التي يتمّ نقلها:

أولاً اللامركزية السياسية: وهي عبارة عن نقل صلاحيات تُقرر في الحياة السياسية من السلطة المركزية إلى السلطة المحلية.

ثانياً اللامركزية الضريبية: وهي التي تطال صلاحيات الدولة المالية وخصوصاً الضرائب والخدمات التي تُموّل من هذه الضرائب.

ثالثاً اللامركزية الإدارية: وهي التي تضم نقل الصلاحيات الإدارية من قرارات وخدمات عامة مع دعم من قبل السلطة المركزية.

لماذا اللامركزية؟ السبب يعود إلى فشل السلطة المركزية في عملية الإنماء والتطور الإقتصادي والاجتماعي، ما يفرض تغييراً في الحوكمة، لجعلها تتوافق مع مبادئ الديموقراطية الآنفة الذكر. فالإقتصاد اللبناني في حال تراجع وخسائر مُتواصلة منذ العام 2010 (Cost of Opportunities)، الدخل الفردي مُنخفض بحكم تراجع الإقتصاد، البطالة مُرتفعة بسبب هيكلية الإقتصاد وبسبب النزوح السوري الذي يُثقل الإقتصاد ويمنع خلق فرص عمل تسمح بإستيعاب الداخلين اللبنانيين إلى سوق العمل، البنية التحتية المُتآكلة والتي لم تعد تستطيع مواكبة التطور العصري وخصوصاً التكنولوجي منه، والموارد الطبيعية قابعة تحت سطح البحر (الغاز والنفط) أو تُهدر في البحر (المياه) من دون أن يستفيد منها الشعب اللبناني.

لكن النقطة الأصعب تبقى بإقتناع الشعب اللبناني بأنه شعب ينتمي إلى بلدان العالم الثالث، وبالتالي كل مبادئ الديموقراطية لا توجد في ممارساته الديموقراطية وعلى رأسها مبدأ المحاسبة الذي سمح بتفشّي آفة الفساد، لدرجة أنه لم يعد يُحاسب المُنتخبين، نيابياً أو بلدياً. والنظر إلى الانتخابات البلدية الأخيرة يسمح لنا بالإستنتاج أن العديد من البلديات فازت بالتزكية أو أُعيد انتخاب الأشخاص أنفسهم في الأمكنة ذاتها.

من هنا يُطرح السؤال عن مدى فعالية اللامركزية في التطور الإقتصادي والاجتماعي في ظل غياب المُحاسبة؟

إن طبيعة النسيج اللبناني تجعل من شبه المُستحيل إعتماد اللامركزية السياسية نظراً لعدم أهلية القوانين اللبنانية لإدارة المطبات التي قد ترافق مثل هذا التطور. أما الفساد فهو عائق أساسي أمام تطبيق اللامركزية الضريبية والإدارية نظراً لما تتطلبه من قدرة عالية من الشفافية، الرقابة، والمحاسبة. من هنا تظهر أهمية الحوكمة الرشيدة التي تمتلك أبعاداً متعددة نذكر منها:

أولاً البعد السياسي الذي يُشكل آلية صنع القرار طبقاً للسياسات الموضوعة. وهذا البعد يُعطي الأفضلية للسلطات المحلية القريبة من المواطن، وذلك يسمح بإنماء المنطقة موضوع اللامركزية. ويتّصف البعد السياسي بعدد من العناصر التي تؤمن فوقية الدستور، حقوق الإنسان، إجراء انتخابات حرّة وشفافة بإنتظام، إستقلالية القضاء، ومسؤولية الحكومة.

وبفضل هذا البعد، تُصبح الحوكمة الرشيدة مضمونة بآليات رقابية عامة أي مجلس النواب والقضاء.

ثانياً البعد الإقتصادي الذي يشمل آلية صنع القرار المُتعلق بالنشاط الإقتصادي في المنطقة الخاضعة للامركزية. وهذا البعد له تداعيات مباشرة على الفقر، تساوي الفرص، ونوعية الحياة لأن الإدارة الجيدة تجذب الإستثمارات، وبالتالي تُصبح المنطقة معادلة إقتصادية صعبة.

وتنص الإدارة الإقتصادية على وضع الشفافية في المرتبة الأولى في كل ما يخص الشأن العام، كما تُحفّز محاربة الفساد بكل أشكاله والهروب من العقوبة. ويُمكن ذكر النظافة في التعاطي مع المال العام وخصوصاً في ما يتعلق بالمناقصات العامة.

ثالثاً البعد الاجتماعي- الثقافي الذي يحتوي على الآليات التي تسمح للمواطن بالوصول إلى الخدمات العامة الأساسية مثل التعليم، العمل، السكن، وغيرها. وهنا تظهر أهمية هذا البعد من ناحية الدور الذي تلعبه الإدارة الاجتماعية والثقافية في تسويق ثقافة الأخر، ونشر ثقافة السلام وقبول الأخر والإنسجام الوطني رغم الإختلاف العقائدي أو الطبقي.

وتنص الإدارة الاجتماعية والثقافية على تحسين الوضع المعيشي للمواطن وخصوصاً حقه في نظام طبّي. وهنا يأتي دور السلطة المركزية في وضع الموارد المالية اللازمة لكي يكون هناك تعاضد بين المناطق على الصعيد الصحي ونظام الطبابة.

مما سبق نرى أن الحوكمة الرشيدة في ظل اللامركزية ليست شعاراً بل هي “مؤسسة” بحد ذاتها تمتلك “قيماً” ولها صدقية مُثبّتة بآلياتها التي تصنع بها القرار. فهل يُمكن لمجالسنا البلدية المُنتخبة حديثاً أن تقوم بالحوكمة الرشيدة في ظل القوانين الحالية التي أعطتها حق اللامركزية في بعض الملفات الاجتماعية والإقتصادية كملف النفايات؟