النموذج الاقتصادي والاجتماعي مفلس. البنك الدولي قالها صراحة في تقريره الفصلي الأخير، بالاستناد إلى المؤشرات السلبية المتراكمة سياسياً ومالياً واقتصادياً. البيئة السياسية تستمر في التدهور. الفساد يأكل بنية الدولة. محرّكات النموّ باتت أكثر عجزاً عن تأمين استمرارية النموذج… الحلّ الوحيد يكمن في مبادرات تخرج من قطاعي الصناعة والتكنولوجيا
محمد وهبة
أصدر البنك الدولي تقريره الفصلي، أول من أمس، بعنوان «A Geo – economy of riks and reward». التقرير الذي قدّمه الخبير لدى البنك الدولي وسام الحركة، كان بمثابة نعياً للنموذج الاقتصادي، إذ أشار في خلاصته إلى أنه «بات ضرورياً للبنان أن يخرج من النموذج الاقتصادي والاجتماعي المُفلس». سبق هذا النعي، عرضٌ لنتائج النموذج في عام 2015 والتوقعات لعام 2016 انطلاقاً من موقع لبنان الجغرافي في «قلب الشروخ والمخاطر».
يقول البنك الدولي إن اعتماد الاقتصاد اللبناني على تحويلات المغتربين لتمويل الاختلالات الداخلية والخارجية «يعرّض البلد إلى ظروف اقتصادية وسياسية لا يمكنه السيطرة عليها». ويشير إلى أن «التهديد الاساسي للاقتصاد اللبناني هو احتمال ترحيل اللبنانيين المهاجرين إلى الخليج لدواع العمل”. «المحاكاة التي قام بها البنك الدولي تشير إلى أن النموّ سيكون أقل بنسبة 2.1% في السنة الأولى على هذا السيناريو ويتزامن مع تقلص الإستهلاك الخاص. المشكلة أن هذا الأمر يأتي في وقت يصاب فيه النشاط الاقتصادي بأزمة سببت تقلصاً في النمو الحقيقي وكان لها انعكاسات على نسبة التضخّم، فضلاً عن ازدياد الحاجات التمويلية».
ما تعنيه هذه الخلاصة، هو أن لبنان استورد في عام 2015 سلعاً ومنتجات استهلاكية بقيمة 18 مليار دولار في مقابل صادرات بقيمة 2.9 مليار دولار، وبالتالي فهو بحاجة لاستقطاب الدولارات الكافية من الخارج لتمويل العجز التجاري البالغ 15 مليار دولار. ويضاف إلى ذلك أن الحكومة تغرق في العجز والاستدانة لتمويل خدمة الدين العام. النموذج الحالي قرّر أن يموّل هذه الحاجات من خلال تصدير اليد العاملة التي تحوّل قسماً من مداخيلها إلى أسرها في لبنان. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على كل النظام الذي لم يتوقف يوماً عن الخضوع للإرادة الخارجية في قراراته السياسية.
إذاً، ما يرمي إليه البنك الدولي هو أن النموذج، بكل أقسامه السياسة والمالية والاقتصادية، مكشوف على المخاطر الخارجية. انكشاف ظهرت نتائجه أسرع مع ازدياد عدد السكان بنسبة 27% خلال فترة زمنية قصيرة لا تزيد على أربع سنوات. خلال هذه الفترة الزمنية كان هناك «قصور في التدفقات النقدية قد يؤدي إلى تدهور في الاصول الخارجية الصافية. ففي عام 2015 كان التراجع في التدفقات الرأسمالية ملحوظاً أكثر من السنوات الثلاث السابقة، إذ بلغ التراجع 25.4%». ويضيف أنه «منذ عام 2012 عانت القطاعات الاساسية المحركة للنموّ من تراجع حادّ في نشاطها واصبحت أقلّ استقطاباً للاستثمارات الأجنبية المباشرة، سواء كانت في العقارات والسياسة وسواها. آخر إحصاءات متوافرة عن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تشير إلى أنها تمثّل 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل من المستويات المطلوبة التي تسبق أي أزمة، فهي كانت بين 2000 و2010 توازي 9.5% من الناتج المحلي الإجمالي».
أدّى هذا التدهور في التدفقات الرأسمالية إلى تراجع ملحوظ في الأصول الأجنبية لمصرف لبنان، التي بلغت 30.6 مليار دولار في نهاية 2015. إلا أن ما لم يذكره تقرير البنك الدولي، هو أن مصرف لبنان لجأ إلى أدوات مختلفة لتعزيز محفظته من الأصول الأجنبية، فأجرى عملية استبدال، بالتنسيق مع وزارة المال، للسندات التي يحملها بالليرة اللبنانية بسندات بالدولار كانت تحملها وزارة المال. هذا الأمر وفّر له 2 مليار دولار أضيف أخيراً إلى احتياطاته، لكنها لا تعزّز موقعه تجاه الأصول الاجنبية الصافية التي تقاس على أساس ما يحمله لبنان بكل أركانه (وزارة مال، مصرف لبنان، مصارف…) مقارنة بما عليه.
إلى ذلك، تستمرّ معاناة هذا النموذج. «منذ عام 2005 لم يقرّ مجلس النواب أي موازنة عامة. وكان لافتاً، أن الموازنات التي أقرها المجلس في فترة ما بعد الحرب الأهلية لم تكن ضمن المهل الدستورية، فيما الحسابات العائدة لهذه السنوات تحتاج إلى تعديلات أساسية… وقد توسّع الإنفاق على أساس تحويلات من الخزينة. السياسات لم تكن موجودة على أساس متوسط المدى».
ومن أبرز نتائج أداء النموذج في عام 2015، أن الفقر بلغ 27% خلال الفترة 2011/2012، علماً بأنه ما من إحصاءات عن الفترة التالية. معدلات الفقر الأعلى كانت في الشمال والبقاع، أما نسب تركّز الفقراء، فكانت في جبل لبنان… ويلفت البنك الدولي إلى أن «النازحين السوريين، نظراً إلى طبيعة وجودهم في لبنان، صاروا جزءاً من سوق العمل، وهم ناشطون اقتصادياً ما أدى إلى توسّع العرض في سوق العمل بنسبة 50%».
النموذج يبتلع العوامل الإيجابية أيضاً. ففي السنتين الماضيتين، انخفضت أسعار النفط تاركة أثر إيجابي على الاقتصاد اللبناني. فقد انخفضت التحويلات من الخزينة إلى كهرباء لبنان، إلا أن الامر لم يكن كافياً إذ يقدّر البنك الدولي أن نسبة زيادة العجز تبلغ 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وأن يتقلص الفائض الأولي بنسبة 0.12% من الناتج المحلي الإجمالي… «وقد أدّى هبوط أسعار النفط وانخفاض قيمة اليورو إلى إنكماش في الاسعار بمعدل 3.7%، ما أبطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي ورفع نسبة الدين إلى الناتج بمعدل 3.1 نقاط مئوية ليبلغ 148.7%».
وكان لافتاً أن الأزمة بدأت تضرب الأداة الاساسية التي استعملت لتعزيز التدفقات الراسمالية، أي المصارف. فبحسب تقرير البنك الدولي، إن الأزمة الإقليمية انعكست أيضاً على الودائع الوافدة إلى القطاع المصرفي، ففي السنوات بين 2011 و2015 كان حجم الودائع الجديدة أقل بكثير من الحجم الوافد في الفترة بين 2003 و2010ز أما حركة التسليفات للقطاع الخاص، فهي بجزء أساسي منها تعزى إلى السلات التحفيزية التي أطلقها مصرف لبنان خلال السنوات الماضية، وبدأت تظهر علامات الضعف على التسليفات للسوق المحلية فيما بدأت تنخفض التسليفات لغير المقيمين. “مشكلة هذا المسار التسليفي أنه على السلطات النقدية أن تحمي وتنبه جداً من مخاطر التسليف المفرط للاسر”.
إذاً، كيف يمكن الخروج من هذا الوضع؟ يسلّط البنك الدولي الضوء على مسارين أساسيين للخروج من حالة الإفلاس هذه. الأول يتعلق بالمناطق الصناعية التي أطلقتها وزارة الصناعة خلال الفترة الأخيرة، والثاني يتعلق بالقطاعات التكنولوجية. «هذان القطاعان مهمان لخلق الوظائف، وهما خطوة نحو استدامة النموّ لأنهما أقل عرضة للمخاطر الخارجية مقارنة بالمحركات التقليدية للنمو الاقتصادي في لبنان، أي محرّك السياحة ومحرّك العقارات. وأبعد من ذلك، فإنهما يسهمان في إبقاء راس المال البشري في السوق المحلية علماً بان السوق التصديرية تبقى محتملة، ما يخلص لبنان من الاعتماد على التدفقات الخارجية ويخفف من مخاطر عجز ميزان المدفوعات».
عوائق الصناعة
أعدّ البنك الدولي دراسة عن العوائق التي تواجه المصانع اللبنانية. أكبر العوائق هي الكهرباء اللازمة للصناعة، وتمويل الاستثمار الصناعي. وتليهما معدلات الضريبة المعمول بها في لبنان، ثم كلفة الأرض القابلة للاستثمار الصناعي، وبعدها قوانين العمل، وكلفة الرسوم الجمركية وتخليص البضائع. الأقل تأثيراً هو مهارات العمّال، والسوق غير النظامية، والنقل، والتراخيص.
هذه العوائق، لا تشمل الحالة السياسية ولا الفساد أيضاً، وهو ما يثير أسئلة واسعة عن الرغبة الرسمية في الاهتمام بهذا القطاع؛ هل حقاً يريدون صناعة في لبنان؟ لماذا يذهب كل «الدلال» و«الغنج» المربحين على حساب الخزينة اللبنانية وجيوب اللبنانيين إلى القطاعات الريعية التي لم تعدّ هي المحرّك الرئيسي للنموّ؟