عبد الناصر عبد العال
بينما تتفاقم أزمة المياه في مصر ويزداد عدد السدود التي تبنيها دول أعالي النيل، تفتقر القاهرة إلى الرؤية الإستراتيجية للتعامل مع أكبر أزمة تهدد الوجود المصري.
فقد انتهت إثيوبيا مؤخرا من بناء أكثر من 70% من سد النهضة، كما وقعت مؤخرا عقدا قيمته 2.5 مليار يورو (2.8 مليار دولار) مع شركة ساليني إمبريغيلو الإيطالية لبناء سد “كويشا” بسعة تخزينية مقدارها ستة مليارات متر مكعب، وبطاقة كهربائية مقدارها 6.4 غيغاواط.
وتشير التقارير الصحفية إلى أن إثيوبيا تخطط لبناء 12 سدا، ثلاثة منها ستكون على النيل الأزرق، وهي “كارادوبي” و”بيكو أبو” و”مندايا”، وتبلغ سعتها التخزينية نحو 200 مليار متر مكعب، مما يعتبر حرب مياه شاملة ضد مصر والسودان. كما أعلنت دولة جنوب السودان عزمها بناء سدين على النيل الأبيض، أحد روافد نهر النيل الرئيسية. وتحديدا، ستبني سد “كايا” على الحدود مع أوغندا، وستبني الآخر في مدينة نمولي وتطلق عليه اسم سد “فولا”. كما كشفت الكونغو مؤخرا عن خطة لبناء سد “إنغا 3” على منابع النيل الأبيض بتكلفة 14 مليار دولار، وسينتج كمية من الكهرباء تزيد بضعفين ونصف عن طاقة سد النهضة.
لذلك يجب على مصر والسودان التعاون فيما بينهما قبل فوات الأوان، وصياغة إستراتيجية موحدة لمواجهة ثورة السدود في أعالي النيل.
نقص المياه يفاقم أزمات مصر
يتوقع أن يحجز خزان سد النهضة نحو 74 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق. ويأتي نحو 72.5 مليار متر مكعب -أي 86% من مياه النيل- من إثيوبيا، بينما تأتي النسبة الباقية أي ما يعادل 11.5 مليار متر مكعب من البحيرات الاستوائية عن طريق النيل الأبيض. فالنيل الأزرق ونهر السوباط ونهر عطبرة كلها تنبع من إثيوبيا. بعبارة أخرى، فإن ملء خزان سد النهضة وحده سيحرم مصر والسودان عاما كاملا من مياه النيل الأزرق، أو على أقل تقدير سيؤدي إلى استهلاك نحو ثلثي المخزون الإستراتيجي في بحيرة ناصر.
لقد أدى نقص تدفقات مياه النيل لهذا الموسم إلى تفاقم أزمتي الغذاء والطاقة في مصر، فقد صرح وزير الموارد المائية والري المصري بأن البلاد تعاني عجزا في المياه يقدر بـ18 مليار متر مكعب. ومما يزيد الأمر سوءا أن مصر تعاني بالفعل من فقر مائي، حيث يقل نصيب المصري من المياه (630 م3) عن المعدل الدولي وهو ألف متر مكعب سنويا. ويتوقع أن يصل هذا العجز المائي إلى 80% بحلول العام 2030. أضف إلى ذلك أن هناك حاجة ملحة لاستصلاح ملايين الأفدنة لاستيعاب الزيادة السكانية المتفجرة وسد فجوة الغذاء التي تستنزف العملة الصعبة.
كما باتت مصر الأولى عالميا في استيراد القمح، بالإضافة إلى استيرادها كثيرا من السلع الغذائية. وقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى معدلات قياسية مؤخرا. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر الأرز -رغم منع تصديره- من 4.5 جنيهات (نصف دولار) في مارس/آذار الماضي إلى تسعة جنيهات للكيلو في الوقت الراهن. وتشير التقارير إلى أن آلاف الأفدنة لم تزرع الأرز لهذا الموسم بسبب عدم وصول المياه إليها. وقد كشف وزير الري المصري مؤخرا عن اقتراح بزراعة الأرز المصري في دول أخرى. وقد يؤدي الافتقار إلى المحاصيل الأساسية في مصر بسعر يناسب الطبقات الفقيرة، إلى ثورة جياع.
وعلى نفس الصعيد تفاقمت أزمة الطاقة التي تضرب البلاد بسبب نقص موارد مياه النيل، فقد صرح وزير الكهرباء المصري مؤخرا بأن محطة كهرباء السد العالي خرجت من الخدمة بسبب نقص تدفق مياه النيل. هذا إلى جانب احتمال تأثر الثروة السمكية والملاحة النيلية وما يتعلق بها من سياحة وتجارة داخلية وغيرها.
مخاطر انهيار سد النهضة
انهيار سد النهضة سيؤدي إلى غرق دولتي المصب في مياهه وغمرهما في طميه، فخلافا للمنشآت العملاقة الأخرى، تتعرض السدود إلى مخاطر التصدع والانهيار بسبب الزلازل أو ضغط الطمي المتراكم أمامها، أو الاندفاع الشديد للمياه نتيجة الفيضانات والسيول العارمة، أو بسبب الانهيارات الجبلية أو تسرب المياه في بنية السد والمنطقة الحاضنة له. فسرعة اندفاع مياه النيل الأزرق تزيد في بعض الأحيان على نصف مليار متر مكعب يوميا، وبارتفاع يصل أحيانا إلى 600 متر. هذا بالإضافة إلى مخاطر رداءة التصميمات أو عوار في التنفيذ أو المبالغة في سعة السد التخزينية. وهناك تضارب في المعلومات الخاصة بسعة سد النهضة (أعلن أنها 18 مليار متر مكعب في البداية). أضف إلى ذلك غياب ضمانات الأمان، وشيوع فشل المشروعات التنموية في إثيوبيا.
لقد مر العالم بتجارب قاسية وكوارث عظيمة جراء انهيار السدود، فقديما انهار سد مأرب في اليمن وسبب هجرة معظم سكانها وتشتتهم بين شعوب المنطقة. وبالمثل، انهار سد مقاطعة هنان في الصين عام 1975 مما أسفر عن مقتل 171 ألف شخص وتدمير 11 مليون منزل. كما انهار سد تيتون بولاية أيداهو الأميركية عام 1976 أثناء عملية ملء الخزان. وحديثا، انهار سد قرب العاصمة الإندونيسية جاكرتا عام 2009 مما تسبب في مقتل 67 شخصا. وأحدث كارثة مسجلة هي انهيار سد أليو بالهند في يناير/كانون الثاني 2014 أثناء اختباره للمرة الأولى. لذلك فإن انهيار سد ضخم مثل سد النهضة بسعته التخزينية الكبيرة ستكون آثاره كارثية.
خيارات التعامل مع الأزمة
ينادي البعض باستخدام القوة للتعامل مع الأزمة، ولا سيما في ظل إعلان إثيوبيا عن عزمها إنشاء ثلاثة سدود أخرى بطاقة تخزينية 200 مليار متر مكعب. فاعتماد القوة أو حتى التلويح بها يمكن أن يبعث برسالة إلى إثيوبيا ودول أعالي النيل كافة، مفادها أن حصة مصر من مياه النيل خط أحمر. ومما يعزز هذه الدعوات أن سد النهضة بني على أراض سودانية احتلتها إثيوبيا عام 1902. كما يمكن الحصول على دعم إريتريا والصومال نظرا لاحتلال إثيوبيا أراضي مملوكة للدولتين.
لكن توقيع مصر والسودان على اتفاق مبادئ سد النهضة في مارس/آذار 2015 نحى هذا الخيار جانبا. وعلاوة على ذلك، لا يمكن ضرب السد بعد اكتماله وملء خزانه، لأن ذلك من شأنه إغراق السودان.
لذلك بقي خيار المفاوضات والاتفاق على ضمان حصة مصر والسودان في مياه النيل. كما يمكن التعاون في بناء مشروعات لحصاد المياه لتعويض الفاقد. ففي سبعينيات القرن الماضي اشتركت مصر والسودان في حفر قناة جونقلي لتوفير خمسة مليارات متر مكعب تقسم بالتساوي بين البلدين. ومع اندلاع الحرب الأهلية في السودان هاجمت الحركة الشعبية لتحرير السودان موقع الحفر وتوقف العمل فيه في فبراير/شباط 1984. ويوجد اقتراح بشق قناة جونقلي الثانية غرب القناة الأولى لتضيف نحو أربعة مليارات متر مكعب إلى مياه النيل الأبيض. كما يمكن حفر قناة في مستنقعات بحر الغزال وحصاد نحو سبعة مليارات متر مكعب. وهناك أيضا دراسة عن إمكانية حفر قناة على النيل الأبيض يمكن أن تضيف نحو أربعة مليارات متر مكعب.
وبالمثل يمكن التفاوض مع إثيوبيا على مشروعات لحصاد المياه على النيل الأزرق وعطبرة والسوباط لتعويض الفاقد الناتج عن البخر أمام السد والمياه التي سيحجزها والمياه التي ستتسرب في طبقات الأرض. فحصاد المياه يعتبر بديلا أفضل من اقتراح وزارة الري بزراعة المحاصيل الإستراتيجية لمصر في دول أخرى. فموارد حوض النيل من المياه تصل عشرة أضعاف كمية المياه التي يحملها النيل إلى مصر والسودان. كما أن دول أعالي النيل تعتمد بشكل كبير على نمط من الزراعة يعتمد على مياه الأمطار لا على الري التقليدي.
ويمكن عرض حزمة من الحوافز على دول أعالي النيل تشمل تكاملا اقتصاديا أوسع يتضمن اتفاقيات للتبادل التجاري وربط شبكات الطرق والكهرباء والسكك الحديدية. فسد النهضة وحده سيولد نحو ستة غيغاواط من الكهرباء، وستحتاج إثيوبيا والكونغو إلى الربط الكهربائي مع مصر لتصدير فائض الطاقة المتولدة. ويمكن لمصر فرض رسوم على عبور الطاقة الكهربائية من أراضيها إلى أوروبا ودول شمال أفريقيا.
وعليه، هناك فرصة للتعاون في إدارة مياه حوض النيل وتدشين مشروعات لحصاد المياه لتقليل أو تعويض الخسائر الناجمة عن السدود الجديدة، وإنشاء سوق مشتركة للكهرباء في حوض النيل. لكن يجب على دول أعالي النيل أن تعي أن ملكية موارد المياه هذه ملكية مشتركة بين دول المنبع والمصب.