عصام الجردي
يمضي دونالد ترامب بخطى واثقة نحو تكريسه مرشح الحزب الجمهوري إلى الانتخابات الرئاسية الأميركية حين انعقاد مؤتمر الحزب في تموز/ يوليو المقبل، ليواجه هيلاري كلنتون من الحزب الديموقراطي. ترامب جيشت مواقفه العنصرية اوساطاً واسعة ضده من الرأي العام بما في ذلك قيادات بارزة من الحزب الجمهوري نفسه، وصلت إلى رئيس مجلس النواب بول ريان ورئيس مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل.
لكن لماذا تتوجس وول ستريت والمؤسسات المالية والاستثمارية في الولايات المتحدة من ترامب؟ علماً أنها كانت من أشد معارضي القوانين والإجراءات التي أقرها الكونغرس في حقبتي رئاسة باراك أوباما من الحزب الديموقراطي. وكان أهمها قانون دود- فرانك لإصلاح الوضع المالي، الذي أنهى مقولة “أكبر من أن يسقط” (Too Big To Fail) في إشارة إلى إضطرار الإدارة لإنقاذ مؤسسات مالية ومصرفية عملاقة، كانت مسؤولة عن أزمة الرهونات العقارية في 2008 من أموال مكلفي الضريبة.
لم تكن مواقف ترامب وتصريحاته قد بلغت هذه الفظاظة عندما قال أوباما في آذار/ مارس الماضي بلهجة حاسمة لا يعوزها اليقين: “لن يكون دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة”. بدا للبعض أن أوباما لا يراهن على قوة كلنتون المرشحة الديموقراطية المحتملة، بمقدار رهانه على حماقة ترامب، وعلى اهتزاز صورته لدى فئات واسعة من الأميركيين من أصول لاتينية ومهاجرة، ومن أصحاب الدخول الدنيا والطبقة المتوسطة الذين حصلوا على كثير من المكاسب في حقبتي رئاسة أوباما وقوة الحزب الديموقراطي في مجلسي الكونغرس. تحقق كثير من هذا الاعتقاد اليوم، وهو عرضة لازدياد مضطرد في الشهور الخمسة الفاصلة عن الانتخابات في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل. لكنه ليس تفسيراً شافياً لمخاوف وول ستريت والمؤسسات المالية والاستثمارية من ترامب. اعتقادي أن الأمر أبعد من ذلك. ويطال مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في الإقتصاد العالمي وهيمنتها عليه.
وول ستريت والمؤسسات المالية والمصرفية ركن أساس من أركان الـ”إستبلشمنت” الأميركية الأربعة التي تحكم الولايات المتحدة فعلياً. في صرف الاعتبار عمّا إذا كان الرئيس ديموقراطياً أم جمهورياً. إلى جانب وزارة الدفاع (البنتاغون) ووزارة الخارجية وأجهزة الأمن القومي. مدعومة من مراكز البحوث (Think Tanks). الـ”الإستبلشمنت” هذه رفضت العمل ضد أوباما لوصول أول “أسود إلى البيت الأبيض” في 2008، بعدما خلّفت سياسات سلفه الجمهوري جورج دبليو بوش وحروبه كوارث إقتصادية وإنسانية واجتماعية، أفضت إلى أزمة تبخرت نتيجتها تريليونات الدولارات الأميركية، وهددت النظام الإقتصادي العالمي ومكانة القوة “الأعظم”. وما تزال تجر ذيولاً واحتمالات ركود عالمي جديد.
يتردد الآن في الولايات المتحدة أن رعونة ترامب لا تؤهله لحمل الحقيبة النووية وشيفرتها إذا بات رئيساً. بيد أن الحقيبة والشيفرة عاطلتان عن العمل، بتوازن الرعب مع حقائب وشيفرات مماثلة لدى قوى أخرى. ونحسب أن عقوداً طويلة ستمضي لتتغير هذه المعادلة. إنما الثابت أن هناك شيفرة أهم للولايات المتحدة تتمثل في الإقتصاد والمال والنقد، بحقيبة من نحو ربع إقتصاد العالم تفرض هيمنتها. تأمر فتطاع. لو صار ترامب رئيساً، وراح ينفذ أفكاره المترعة كراهية وانعزالاً، في السياسة والإقتصاد والثقافة، لتفككت الشيفرة، ولضمرت الحقيبة من عناصر قوتها. لهذا على الأرجح تخافه وول ستريت، و”لوبيات” المال، والمجمعات الصناعية والتكنولوجية. خطاب ترامب القومي العصبوي، دعوة إلى عزل الولايات المتحدة عن العالم في “أمة من المهاجرين” على ما قال إرنست همنغواي. وصل به الجنون إلى حد وعد ناخبيه بإقامة سد مع المكسيك وعلى حسابها. انعزال الولايات المتحدة يتناقض تماماً مع عولمة الإقتصاد الأميركي الذي يشكل انفتاحه على الأسواق الخارجية والتجارة الحرة صلب قوته. ويعني أيضاً ضرباً لقطاعات الصناعة والزراعة وخدمات التكنولوجيا الأميركية التي باتت جزءاً لا يتجزأ من إقتصادات العالم وسر تفوق الدولة. بما في ذلك النظام المالي والمصرفي وسطوة الدولار الأميركي على الساحة المالية والتجارية الدولية.
استغرقت الولايات المتحدة إثني عشر عاماً للتفاوض على “اتفاق الشراكة عبر الأطلسي”. منها ثمانية أعوام في حقبتي رئاسة أوباما. ترامب ضد هذا الاتفاق ويعد بإيقافه وإعادة النظر باتفاقات تجارية حرة أخرى بما في ذلك اتفاق التجارة الحرة لدول أميركا الشمالية (نافتا). وله مواقف متشددة من الصين التي تستهلك نحو 14 في المئة من الصادرات الإجمالية الأميركية بدعوى الخلل في الميزان التجاري لمصلحة الأولى. النظام التجاري الدولي الذي بنته الإدارة الأميركية خلال عقود من الزمن على خلفية تأمين مصالحها الحيوية، غير آبهة بمصالح الدول النامية والفقيرة وقدراتها التنافسية الضعيفة، يأتي ترامب ليشكل تهديداً مباشراً له. هكذا النظام المالي والمصرفي. فلو كان من الحمق وصوله إلى رئاسة الولايات المتحدة، فمن المستحيل تركه ينفذ تهديداته ووعوده. لهذا تتوجس منه وول ستريت والمؤسسات الاستثمارية والصناعية.
يعارض ترامب برنامجي الرعاية الاجتماعية والصحية للرئيس أوباما، ويعد بتعديلهما متملقاّ شركات التأمين وول ستريت والحزب الجمهوري الذي يوافقه الرأي في هذا المجال. لكنه يذهب إلى أبعد في تملق المواطنين البيض. يطالب بحجب التقديمات الصحية والاجتماعية عن الأميركيين من أصول لاتينية وعن مكتسبي الجنسية من المهاجرين. 40 مليون أميركي كانوا بلا تغطية صحية قبل برنامج الرعاية الصحية. أكثر من نصفهم من البيض. برنامجه لخفض العجز المالي يشمل إلغاء ما بات يعرف “مصارف الطعام” (Food Banks) المنتشرة في معظم الولايات الأميركية. ويستغيث أحد تلك المصارف في نيويورك لمده بمزيد من المال تمكنه من تقديم وجبة ساخنة يومياً على الأقل. في المقابل يعد بخفض الضريبة على الشركات بواقع 10 تريليونات تدرجاً على سنوات، سبيلاً لزيادة النمو واسترجاع العائدات من ضرائب الأرباح. هكذا فعل جورج دبليو بوش في أول تشريع مرره في الكونغرس بعد وصله إلى البيت الأبيض مرة أولى في عام 2000. تسلم فائضاً في الموازنة من سلفه بيل كلنتون، وترك الخزانة مدينة بنحو 14 تريليوناً وصلت الآن إلى زهاء 19 تريليوناً ، قرابة 90 في المئة من الناتج المحلي.
ما نقلته وكالة “بلومبرغ” عن ترامب لا يمكن تصديقه. قال: “على الرئيس المقبل دعوة دائني الولايات المتحدة للتفاوض على إعادة شراء الدين الأميركي بأسعار مخفضة”. وهو يعلم أن مجرد تلميحات في المعنى المذكور من رئيس لأكبر دولة في العالم تحمل أكبر دين عام، كاف لدب الذعر في الأسواق المالية العالمية، وفي إقتصادات أوروبا والصين وآسيا وغيرها. ولرفع تكلفة الدين الأميركي بعلاوة مخاطر سياسية غير مسبوقة. ودائنو هذه الدولة هم شركاء الولايات المتحدة التجاريون والاستثماريون من دول وكبريات بيوت المال والاستثمار في العالم. هذه دعوى لخفض الدين من جانب واحد، وأرجوفة تتسق مع اتهامات للملياردير الأخرق سلكها في مسار تكوين ثروته وأمبراطوريته العقارية والاستثمارية في معظم مناحي الاستثمارات. وقد كشف ترامب عن ثروته الشهر الماضي في تقرير من 104 صفحات. يملك و/أو يشارك في 560 شركة وكياناً إقتصادياً. قدر دخله السنوي بنحو 557 مليون دولار أميركي. وثروته الصافية بأكثر من 10 مليارات. أبراج ومبان وفنادق وعقارات وملاعب غولف وأسهم في وول ستريت وغيرها. باع في 2015 مؤسسته المنظمة مسابقات ملكة جمال الكون بنحو 28 مليون دولار أميركي. في محفظته الاستثمارية 500 ألف دولار أميركي في شركة فورد. تربّح نحو نصف مليون دولار أميركي في 2015 من عائدات أسهمه في أبل. ويملك أسهماً ممتازة (Blue Chips) أخرى في غوغل، وأمازون، وبفايزر عملاق صناعة الأدوية. وفي غولدمان ساكس، ورويال بنك أوف كندا، وتويوتا وأوكسدنتيال بتروليوم. كل ذلك خارج محفظته في سندات الخزانة الأميركية.
كبير الإقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي سيمون جونسون ومؤلف كتاب “احتراق الأبيض” بالاشتراك مع جيمس كاوك يقول إن ترامب ينوي إلغاء الإصلاح المالي والعودة بالولايات المتحدة إلى شفا الانهيار في 2008 الذي تسبب بفقدان البلاد 20 تريليوناً من الناتج المحلي حداً أدنى. ويرى أن الاستدامة المالية المهددة من ترامب “ليست مهمة لتحقيق الاٍزدهار الاٍقتصادي فحسب إنما للأمن الوطني أيضاً. ففي عام 1814، استطاع البريطانيون تدمير البيت الأبيض (ومعظم المباني الرسمية الأخرى في واشنطن العاصمة) لأن السياسيين الأميركيين قوضوا بشكل شبه كامل القدرة المالية للحكومة المركزية التي كان لديها جيش ضعيف وبحرية غير فاعلة”.
هل يعني ذلك خسارة ترامب سباقه إلى البيت الأبيض؟ ليس بالضرورة. عملية إرهابية واحدة على الأرض الأميركية أو ضد مصالحها في الخارج قد تقلب مزاج الناخب الأميركي ليعلو خطاب ترامب الشوفيني على المعطى الإقتصادي الذي يشكل 65 في المئة من حوافز الناخب الأميركي بحسب استطلاع لوكالة موديز.