أنس بن فيصل الحجي
سترتفع أسعار النفط إلى مستويات عالية خلال العامين القادمين بسبب الانخفاض الكبير في الاستثمارات في كافة أنحاء صناعة النفط العالمية، وهذا ليس في صالح دول الخليج بشكل عام والسعودية بشكل خاص. لهذا فإنه من الضروري رفع أسعار النفط بسرعة إلى ما بين ستين وسبعين دولارا للبرميل حتى يتم ضخ بعض الاستثمارات التي قد تسهم في منع أسعار النفط من الوصول إلى مئة دولار للبرميل.
إن من مصلحة السعودية أن ينمو الإنتاج خارج منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) بشكل يتماشى مع نمو الطلب العالمي على النفط. وكما ذُكر في مقالات ماضية فإن إنتاج النفط الأميركي لن يبدأ بالارتفاع مرة أخرى بشكل ملحوظ إلا إذا تجاوزت الأسعار 75 دولارا للبرميل، لهذا يمكن أن تزيد السعودية إنتاجها في ذلك الوقت لمنع الأسعار من الارتفاع.
باختصار، تقتضي مصلحة السعودية النفطية تخفيض إنتاجها الآن ورفع الأسعار، ثم زيادة الإنتاج عندما تصل الأسعار إلى 75 دولارا للبرميل لمنعها من الارتفاع فوق ذلك الحد.
كيف يتحقق السعر المعتدل؟
أهم مسوغ لهذه السياسة هو أن مصلحة السعودية تتطلب سعرا معتدلا للنفط. هذا السعر له عدة خصائص، أهمها أن يضمن عائدا مجزيا ومستمرا ومستقرا للدول المنتجة، فتحقيق التوازن بين هذه الصفات لا يمكن أن يتحقق في سوق حرة، وهذا يعني بالضرورة إدارة السعودية للسوق بشكل استباقي وتخفيض الإنتاج حاليا وزيادته في المستقبل لمنع أسعار النفط من الارتفاع لأن هذا يهدد “الاستمرارية” و”الاستقرار”.
كانت السعودية وما زالت وستظل اللاعب الرئيسي في السوق، وليس مهما مشاركة دول أوبك وغيرها في تخفيض الإنتاج، لأن هذه الدول لن تخفض الإنتاج حتى لو وافقت على ذلك.
ولن تشارك هذه الدول في رفع الإنتاج لأنها دائما تنتج بطاقتها القصوى. والسعودية -بتحولاتها الإستراتيجية في الفترة الأخيرة- ليست بحاجة إلى أوبك كغطاء لسياساتها النفطية. إن نجاح سياسة السعودية النفطية يتطلب إدارة السوق بمرونة وبشكل استباقي، لتجنب سياسات يمكن وصفها بأنها ردة فعل.
وقد تلقى فكرة تخفيض الإنتاج ورفع الأسعار ارتياحا من شريحة كبيرة في المجتمع، ولكن البعض يرى أن فكرة زيادة الإنتاج فيما بعد لكبح جماح الأسعار غير مقبولة، ويرون أنه يجب تخفيض الإنتاج بكميات كبيرة ورفع الأسعار إلى أعلى ما يمكن بحجة أن منع الأسعار من الارتفاع هو خدمة للدول المستهلكة التي لا تهتم إلا بنفسها، وأنه يجب إبقاء النفط في الأرض للأجيال القادمة. وفيما يلي أهم النقاط التي تؤيد الرأي القائل بضرورة زيادة الإنتاج وكبح الأسعار في مستويات معتدلة:
– كون السعودية ثاني دولة في العالم من حيث احتياطيات النفط يعني أن من صالحها استمرار نمو الطلب على النفط لأطول فترة ممكنة، وهذا يتطلب إدارة السوق بحيث يتم منع أسعار النفط من الارتفاع إلى مستويات تشجع تقنية الطاقة البديلة، وتشجع حكومات الدول المستهلكة على اتخاذ سياسات معادية للنفط والدول النفطية، وتزيد من ذبذبة وتقلبات الأسعار.
وإذا ما تحقق الاستقرار السياسي في فنزويلا والعراق، وانفتحت إيران على العالم، فإن مصالح هذه الدول النفطية تتطابق مع مصالح السعودية، لأنها تحتوي على احتياطيات نفطية هائلة وكلها ترغب في استمرار الطلب على النفط لأطول فترة ممكنة، الأمر الذي قد يزيد من فرص التعاون والتوافق ضمن دول أوبك.
باختصار.. إن وجود احتياطيات نفطية ضخمة يتطلب وجود سوق لهذه الاحتياطيات على مر الزمن، وهذا يتطلب أسعارا معتدلة، والأسعار المعتدلة تقتضي رفع الإنتاج أحيانا لمنع الأسعار من الارتفاع.
– أسعار النفط المرتفعة تعزز “الجدوى” ولكن على المستوى القصير، وربما المتوسط، ولكنها غير مجدية على المدى الطويل لأنها ترفع من مستوى الاستثمارات فوق المطلوب في دول خارج السعودية فيزيد إنتاج النفط بشكل كبير. أسعار النفط العالية لا تضمن “الاستمرارية” و”الاستقرار”، وأكبر دليل على ذلك ما حصل في العامين الأخيرين وما نراه بأم أعيننا الآن.
وما كان يمكن تطوير نفط ألاسكا وبحر الشمال لولا الارتفاع الكبير في أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات، إذ ساهم تطوير هاتين المنطقتين في انهيار أسعار النفط منتصف الثمانينيات وفي بقائها منخفضة نسبيا حتى غزو العراق للكويت في صيف العام 1990. ولولا ارتفاع الأسعار إلى أكثر من مئة دولار للبرميل لما تم تطوير النفط الصخري في الولايات المتحدة بالشكل الذي رأيناه في السنوات الست الماضية.
خطورة الأسعار
– فكرة أن الطلب على النفط سيستمر مهما كان السعر غير صحيحة، والأدلة التاريخية من مختلف أنحاء العالم كثيرة. وقد كان العالم محظوظا لأن ارتفاع أسعار النفط لم يؤثر سلبيا في اقتصادات الدول المستهلكة، خاصة بين عامي 2004 و2008، وهي فترة نادرة في التاريخ، وسبب ندرتها أنها المرة الوحيدة التي ارتفعت فيها أسعار النفط ومعدلات النمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي ودخول الأفراد في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار الفائدة والدولار الأميركي، بينما نجد أنه في فترات أخرى أدى ارتفاع أسعار النفط إلى تدهور النمو الاقتصادي، وارتفاع أسعار الفائدة، وارتفاع نسب التضخم في الدول المستهلكة للنفط، والتي انعكست سلبيا على دول الخليج في عدة مجالات.
– إن الذين ينادون بتخفيض إنتاج النفط بكميات كبيرة ورفع الأسعار إلى أعلى ما يمكن يجهلون أمرا هاما وهو ارتفاع مستويات التضخم، ليس في العالم فحسب، وإنما داخل السعودية أيضا، ويكفي دليلا التضخم الذي شهدته السعودية في السنوات الأخيرة.
– إن التفكير بالأجيال القادمة سلوك نبيل، ولكن ليس هناك دليل قاطع على أن مساعدة الأجيال القادمة تتطلب تخفيض الإنتاج، فهل الأجيال القادمة ستكون في وضع أفضل إذا تم تبني سياسات تضمن لهم استمرار الطلب على النفط، أم أن وجود نفط تحت الأرض لا قيمة له؟ إن تخفيض الإنتاج بشكل كبير ورفع الأسعار إلى أقصى مستوى ممكن سيضرب الطلب على النفط ضربة قاصمة.
وكل ما علينا هو أن ننظر إلى البيانات التاريخية للطلب على الطاقة بشكل عام والنفط بشكل خاص في أي دولة متقدمة، لنرى أن الطلب على الطاقة على المدى البعيد يبدأ متزايدا ثم يبدأ النمو بالانخفاض ثم يصل الطلب إلى قمته ويبقى هناك لفترة، ثم يبدأ بالانخفاض. وإذا نظرنا إلى كل توقعات الطلب على النفط على المدى البعيد خلال السنوات الخمسين الماضية نجد أن الطلب الفعلي كان أقل من المتوقع بكثير. أما إذا نظرنا إلى الموضوع من وجهة التطور التقني فإن كل ما علينا تصوره هو انتشار السيارات الكهربائية أو العاملة بخلايا الوقود، في ظل عالم يغرق بالغاز الطبيعي، لندرك أن استمرارية الطلب على النفط هي كل ما تطلبه الأجيال القادمة في الخليج.
الدول المستهلكة
– السعودية جزء من هذا العالم الذي نعيش فيه ولا يمكن تجاهله، والقول بأن زيادة إنتاج السعودية ومنع أسعار النفط من الارتفاع هو خدمة مجانية للدول المستهلكة، غير صحيح. إن المستفيد الأكبر من منع أسعار النفط من الارتفاع إلى مستويات عالية هو السعودية، لأنها تضمن بذلك استمرارية الطلب على النفط لأطول فترة ممكنة، فالمطالبة بتخفيض الإنتاج بشكل كبير ورفع الأسعار وتجاهل بقية العالم، لا تتماشى مع أي منطق.
وكنت قد كتبت منذ سنوات في جريدة مشهورة ما يلي “نحن جزء من العالم وعلينا أن نفكر ونتصرف بناء على هذا الواقع.. لو قمنا بتخفيض الإنتاج بحجة إبقاء النفط للأجيال القادمة، وفكر الهنود بنفس الطريقة حول الأرز، وفكر السريلانكيون بنفس الطريقة حول الشاي، وفكر السودانيون بنفس الطريقة حول القمح، وفكر منتجو الحديد والنحاس والبوكسايت بنفس الطريقة، ماذا سيحصل لحياتنا اليومية؟ إذا قامت كل الدول الأخرى وطبقت نفس الفكرة، كيف يمكننا العيش على نفط موجود في باطن الأرض ومليارات الدولارات في أيدينا؟ كل ما علينا هو أن ننظر إلى مأكلنا وملبسنا لندرك أن المطالبة بتخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط ضرب من اللعب بالعواطف، بعيدا عن المنطق والواقع”.
– ولعل أقوى النقاط التي يثيرها من يؤيد تخفيض الإنتاج بشكل كبير ورفع الأسعار إلى مستويات عالية، أن بقاء النفط في باطن الأرض والحفاظ عليه للأجيال القادمة أفضل من استخراجه بكميات كبيرة في ظل فساد إداري وإنفاق غير مبرر. وأعتقد أن هذه هي النقطة الأساسية التي يجب التركيز عليها بدلا من المسوغات الأخرى التي تمت تغطية بعضها أعلاه.
غير أن هناك ثلاث مشكلات في هذا التفكير: الأولى أنه إذا كان الشخص يعتقد أنه يستطيع أن يؤثر في قرار إنتاج النفط، فمن المنطقي أن يؤثر أيضا في تخفيض مستويات الفساد الإداري وتحسين كفاءة الإنفاق الحكومي، وبالتالي فإن المشكلة الأساسية ليست في مستوى الإنتاج. والثانية أن تخفيض الإنتاج ورفع الأسعار بشكل كبير يعني أيضا توافر الأموال بشكل كبير مما يشجع على الفساد الإداري والبذخ والتبذير، وعندها تتلاشى حجة هؤلاء لأنه تم تخفيض الإنتاج، وتمت إطالة عمر النفط، وتمت معه إطالة عمر الفساد الإداري. والمشكلة الثالثة أن تقلب الإيرادات الكبير بسبب تخفيض الإنتاج ورفع الأسعار، ثم انخفاض الأسعار بعدها يعني إلغاء الكثير من المشاريع التنموية قيد الإنشاء، وبالتالي خسارة أموال كبيرة قد تفوق الآثار السلبية للفساد الإداري.
خلاصة القول أن السعودية تحتاج إلى سعر معتدل، وهذا يتطلب إدارة السوق بشكل استباقي، وليس بناء على ردات الفعل، وهذه الإدارة تتطلب تخفيض الإنتاج في فترة الأسعار المنخفضة ورفعه عند ارتفاع الأسعار فوق حد معين. إن المشكلة الحالية في أسواق النفط نتجت عن تأخر السعودية عن التصرف في الوقت المناسب، الأمر الذي أدى إلى تمدد صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة بشكل كبير.
إن إعادة التوازن إلى السوق تتطلب تخفيض السعودية إنتاجها الآن ثم رفعه عند وصول الأسعار إلى 75 دولارا للبرميل حفاظا على الأسعار عند ذلك الحد. هذا السعر يحقق إيرادات مجزية ومستمرة ومستقرة، وعندها يمكن الاستثمار في العقول، فالعقول تبقى، وإيرادات النفط لا تبقى.