مرسوم إنشاء المدارس الخاصة المجانية ربط حصولها على المساهمة المالية من الدولة بتوافر رقابة إدارية ومالية عليها تقوم بها وزارة التربية والتفتيش المركزي. إلّا أن التدقيق في البيانات الإحصائية يشوبه الكثير من «البرطيل» وتشابك المصالح، ما جعل عدداً كبيراً من المدارس يستفيد من أموال عمومية في مقابل نوعية تعليم سيئة، فضلاً عن فساد وتزوير في أعداد المستفيدين… أليس الأجدى تخصيص هذه الأموال لدعم التعليم الرسمي؟
فاتن الحاج
تأخرت الرقابة على المدارس الخاصة المجانية هذا العام. أشرفت السنة الدراسية على الانتهاء، وبالكاد أنجزت وزارة التربية المرحلة الأولى من التدقيق في البيانات الإحصائية كشرط أساسي لحصول هذه المدارس على المساهمة المالية من الدولة.
لم يزر التفتيش المركزي المدارس بعد، علماً بأنّ قرار مجلس الوزراء 20/1995 ينص على أنه «لا تدفع المساهمة إلّا بعد تأكد التفتيش المركزي من عدد الطلاب في كل المدارس المذكورة».
ما حصل أنّ جهاز التوجيه والمراقبة التابع لمصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية بدأ في 10 آذار الماضي التدقيق، الذي يقوم به مرة واحدة في كل عام، قبل أن يخرج وزير التربية الياس بو صعب في أواخر آذار ليقول إنّ «ملف المدارس المجانية ينطوي على فضائح كبيرة كتسجيل تلامذة وهميين»، رافضاً «الحديث عن التفاصيل حفاظاً على سرية التحقيقات التي سنكملها حتى النهاية». يومها، توقف التدقيق في وزارة التربية، إلى أن وضع المدير العام للتربية فادي يرق، في القرار 117 الصادر في 19 أيار، 94 معلماً في تصرف مصلحة التعليم الخاص للقيام بأعمال التدقيق، ثم أتبعه بقرار آخر حمل الرقم 174 كلف فيه هذه المرة 66 أستاذاً، منهم 55 مرشداً تربوياً.
هي المرة الأولى التي ينخرط فيها المرشدون في هذه العملية بعد الخضوع لدورة تدريبية، مع العلم بأنّ الإرشاد والتوجيه جهاز غير مقونن. السؤال: كيف سينجز التدقيق، فيما التلامذة يغادرون مقاعدهم نهاية هذا الشهر كحد أقصى؟
58 مليار ليرة مقدار المساهمة
في الواقع، الكلام عن فضائح المدارس المجانية ليس جديداً، فالشبهة تحوم حول الملف منذ زمن بعيد، لجهة نيل المراقبين «برطيل» مقابل التغطية على التلاعب بأعداد التلامذة وغضّ الطرف عن أسماء وهمية أو تسجيل مزدوج لتلامذة في المدارس المجانية والمدارس الرسمية في آن واحد، بهدف مضاعفة مساهمة الدولة.
عدد تلامذة المدرسة الخاصة المجانية يحدد في قرار منح الإجازة، وعلى المدرسة ألا تتخطاه، إلا أنّ عدداً من المدارس استفاد في السنوات السابقة من موافقات استثنائية صدرت عن الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة التربية، بحجة توافر المساحات لدى هذه المدارس. المفارقة التي يتحدث عنها ديوان المحاسبة، في دراسة أعدها عام 2009، هي أن الزيادات الاستثنائية لأعداد التلامذة رفعت مساهمة الدولة للمدارس المجانية في العام 2004 من 32 مليار ليرة إلى 46 ملياراً.
يفتح هذا الكلام على أصل نشوء هذه المدارس في خمسينيات القرن الماضي، حيث قيل يومها إن الهدف هو تعليم فقراء الطوائف، وسدّ حاجات مؤقتة لم تكن وزارة التربية قادرة على تلبيتها بصورة مباشرة في حينه، فأوكلت المهمة إلى مؤسسات خاصة دينية وطائفية، مقابل تقديم مساهمة مالية مشروطة برقابة إدارية ومالية على هذا القطاع.
اليوم، يمثل التعليم المجاني 13.5% من التعليم في لبنان، إذ ارتفع عدد المدارس إلى 371 مدرسة تضمّ 140 ألفاً و608 تلامذة، بحسب آخر إحصاء للمركز التربوي للبحوث والإنماء للعام الدراسي 2014 ــ 2015. هذا يعني أنّه لو كانت كل هذه المدارس مستوفية الشروط المطلوبة، لكانت المساهمة المالية للدولة توازي 105 مليارات و456 مليون ليرة، باعتبار أن المبلغ المعطى عن كل تلميذ هو 750 ألف ليرة لبنانية. لكن يبدو أنّ المسألة لا تقارب على هذا النحو، إذ إنّ التدقيق قد يؤدي إلى حرمان مدارس الاستفادة، لكون المساهمة النهائية تحدد بقرار يصدر عن ديوان المحاسبة. آخر قرار خاص بالمدارس المجانية كان بتاريخ 3/3/2016 عن العام الدراسي 2012 ــ 2013 حيث بلغت قيمة المساهمة 57 ملياراً و594 مليوناً و400 ألف ليرة لبنانية. يذكر أن هذه القيمة هي عبارة عن 135% من الحد الأدنى للأجور، إضافة إلى 25% علاوة في حال انتساب أكثر من 70% من هيئتها التعليمية إلى الملاك، شرط أن لا تتجاوز 150% الحد الأدنى للأجور، اي مليون ليرة لبنانية.
ماذا تراقب الدولة؟
تشمل الرقابة حصول صاحب المدرسة على الإجازة بالعمل كمدرسة خاصة مجانية، التأكد من أن المدرسة لا تتقاضى من الأهالي رسوماً تتعدى 150% من الحد الأدنى للأجور، عدم تجاوز نسبة المعدل العام للرسوب في السنة الدراسية حداً معيناً، أن تشكل وحدة مستقلة عن أية مدرسة غير مجانية في جهازها التعليمي وصفوفها وشؤونها المالية، عدم تخطي عدد المسجلين العدد المجاز تسجيله فيها، مدى التقيد بالقوانين في ما يتعلق بتعيين المعلمين والتثبت من دفع رواتبهم، أن يكون تلامذتها ضمن السن القانوني في ما يتعلق بالسنة الأولى، ألّا تضم الغرفة الواحدة أكثر من 40 تلميذاً، التأكد من هوية الطلاب وجنسيتهم ومن مستوى التعليم ومستوى التلامذة في المدرسة وإنتاجية المدرسة.
الواقع العملي للرقابة
ترتكز الرقابة بصورة أساسية على جهاز التدقيق في وزارة التربية واللجنة الخاصة التي يرأسها قاضٍ إداري وتتألف من مندوب عن وزارة المال ومندوب عن التفتيش المركزي وسبعة من موظفي وزارة التربية. وينظم بنتيجة التدقيق والتحقيق الذي يقوم به جهاز الوزارة التقارير اللازمة التي تحال على التفتيش المركزي لإجراء رقابته عليها.
غير أن الواقع العملي، أظهر ــ بحسب المفتشية العامة التربوية ــ ضعف هذه الرقابة وعدم الحصول على الفائدة المرجوَّة منها لسببين أساسيين:
ـ وصول تقارير لجان التحقيق والتدقيق إلى التفتيش المركزي في وقت متأخر من العام الدراسي، بحيث يصبح متعذراً التدقيق في هذه التقارير لضيق الوقت، فيقتصر عندها دور التفتيش على الرقابة على عيّنات عشوائية من المدارس المجانية، وبالتالي لا يجري التثبت من أنّ جميع المدارس المستفيدة تقدم بيانات صحيحة.
ـ عدم فاعلية آلية الرقابة المعتمدة لدى التفتيش المركزي، التي تجري بإصدار تكليف مشترك مالي ــ تربوي للتدقيق في المساهمات المخصصة للمدارس الخاصة المجانية. وقد نتج من ذلك تداخل في عمل التفتيش التربوي والمالي أدى إلى إطالة الوقت المطلوب.
وكان ديوان المحاسبة قد طالب، في تقرير خاص أصدره في 16/1/1995، بإلغاء المساهمة للمدارس الخاصة المجانية التي لا توفّر المستوى التعليمي اللائق، على أن يكون ذلك نتيجة تحقيقات تربوية وليس فقط إدارية يقوم بها جهاز التفتيش التربوي.
المفتشية العامة توصي بصورة خاصة بإدراج المدارس الخاصة المجانية ضمن منهجها السنوي، تماماً كما المدارس الرسمية.
أما ديوان المحاسبة، فلديه توصية من نوع آخر، إذ يطالب بتعديل النص المتعلق بقيمة المساهمة، بحيث يصبح مبلغاً مقطوعاً من دون أن يربط بالحد الأدنى للأجور، وبالتالي التمكن من ضبط قيمة المساهمة. يقول في دراسة العام 2009 إنّ «عدداً كبيراً من المدارس المجانية استفاد من منحة الدولة في تغطية نفقاتها من دون أن تكون هذه المدارس قادرة على المساهمة في التطوير التربوي، وذلك على حساب المدرسة الرسمية وأموال كان بالإمكان أن تخصص للتدريب والتحديث».
الأب عازار: نقدّم هدايا للمراقبين
يقول الأمين العام للمدارس الكاثوليكية الأب بطرس عازار، إن «اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة فوجئ بوقف التدقيق في المدارس الخاصة المجانية، في نيسان الماضي، من دون أن يصلنا أي تعميم في هذا الخصوص». وفيما يؤكد أن الاتحاد يميز بين المدارس المجانية الملتزمة واجباتها، والمدارس المخالفة ولا يغطي أحد، يشير إلى أنها السنة الرابعة التي تتأخر فيها المستحقات، إذ لم نقبض حتى الآن مساهمة عام 2012 ــ 2013. ويعزو تأخير التدقيق هذا العام إلى سببين: إما أن تكون هناك محاولة لإيقاف المدارس المجانية أو الروتين الإداري وتشابك الصلاحيات بين الوزارة والتفتيش. يلفت الى أنّ التفتيش المالي زار المدارس هذا العام قبل مراقبي الوزارة، الأمر الذي نفته المفتشية العامة المالية. دليل عازار على المستوى الجيد للمدارس المجانية هو نجاح تلامذتها في الامتحانات الرسمية. يرفض الحديث عن رشوة يتقاضاها المراقبون للتغطية على مخالفات المدارس، «فما نقدمه من هدايا مجرد علامة شكر».
يقول عازار: إننا «ننتظر إعلاناً واضحاً لأسماء المدارس المخالفة وأن لا يجري ذلك عبر الإعلام، بل من خلال التواصل مع المرجعيات التربوية».