كوابيس الاستفتاءات لا تنفك تزور البريطانيين، فبعد مخاض الجار الاسكتلندي الذي لم ينجب انفصالاً، هم يعيشون اليوم على وقع استفتاء “المصير الأوروبي” الذي قسم البلاد إلى شطرين متساويين تقريباً حتى آخر استطلاعات للرأي، نصفهم “مع” البقاء في حضن أوروبا، فيما القسم الآخر مع “BREXIT” أو خيار الخروج من اتحاد أوروبي، بدأ بست دول في العام 1951 لم تكن بريطانيا من ضمنها حتى العام 1973، حين قررت الالتحاق بنادي الدول الأوروبية.
وفي غمرة الحال البريطانية هذه، ليست صناديق الاستفتاء المزمع إجراؤه في 23 من يونيو الجاري، وحدها ما يلفت الأنظار، فآمال المتشبثين بالبقاء عالقة هذه الأيام على أبواب قصر “باكنغهام” حيث ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، رمز الوحدة الوطنية منذ 63 عاماً مضت على حكمها، في انتظار “إشارة” منها قد تغير المعادلة برمتها.
فاستطلاع للرأي أجري في بريطانيا أكد أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الملكة في “ملف الاستفتاء”، إذ كشف أن رأي إليزابيث الثانية في مصير بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي أهم لدى البريطانيين من رأي رئيس الوزراء رغم أنه صاحب السلطة الفعلية في البلاد، بما أن الملكة “تسود ولا تحكم”، فيما لا يتفوق عليها في ذلك سوى محافظ بنك إنجلترا المركزي.
وعليه، قد تبدو أيضاً آمال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي وضع الاستفتاء مستقبله السياسي على المحك، في صدارة تلك المعلقة على أبواب القصر، فبضع كلمات فقط من الملكة توحي بتمسك أو حنين للبقاء في الاتحاد الأوروبي، قد تقلب الطاولة برمتها على خصوم كاميرون الداعيين لمغادرة الاتحاد.
لكن، يشكل مبدأ الحياد السياسي في النظام الملكي البريطاني عائقاً أمام تلك الآمال، فالملكة مطالبة بعدم الإفصاح عن رأيها علناً، غير أن هذا الأمر يعد تقليداً أو عرفاً ملكيا غير مستند إلى قانون مكتوب، بحسب ما أوضحته صحيفة “لوموند” الفرنسية، التي أشارت في مقال لها إلى أن دور إليزابيث الثانية يقتصر على تقديم المشورة والتحفيز على الإنجاز والتنبيه من المخاطر، فيما تمارس الحكومة السلطة الفعلية باسم الملكة.
وكل يوم ثلاثاء، تعقد ملكة بريطانيا لقاءً مع رئيس الوزراء كاميرون تعبر فيه عن آرائها في مختلف القضايا، لكن لا شيء من تلك الأحاديث يرى النور في العلن، إذ تبقى الخصوصية المحيطة بشخصية الملكة عاملا أساسيا في تأثير القصر.
غير أن زلة من كاميرون في سبتمبر 2014 كادت أن تشعل حينها أزمة مع قصر باكنغهام، فبعيد استفتاء عاصف آخر حول انفصال الاسكتلنديين عن بريطانيا، لمح رئيس الوزراء إلى “غبطة” الملكة لغلبة كفة الرافضين للانفصال، لكن سرعان ما تدارك كاميرون الموقف مقدماً اعتذاره، فيما نفى القصر بدوره أن تكون الملكة “قد عبرت بأي شكل من الأشكال عن تأييدها لأي طرف”.
وعلى الرغم من ذلك، تعمد الملكة أحياناً إلى الخروج عن عقيدة القصر، عبر تمرير بضع كلمات تحمل الكثير من السياسة، لكن على لسان رئيس الوزراء، الذي كما غيره من رؤساء الحكومات السابقة غالباً ما يلجأ لشعبية الملكة خارجيا خاصة في ألمانيا والصين، كعنصر تأثير يميز الدبلوماسية البريطانية.
وقد تفصح الملكة عن بعض المواقف بشكل غير مباشر، وذلك في صيغة “نصيحة”، كما حدث أياماً قليلة قبل استفتاء اسكتلندا، حين لفظت جملة بسيطة لكنها تحمل الكثير، قائلة: “على الاسكتلنديين أن يفكروا ملياً في المستقبل”.
ولعبت إليزابيث الثانية أيضاً دوراً هاماً في مرحلة عصيبة أخرى مر بها كاميرون، الذي دخل في يونيو 2015 بمحادثات مشحونة مع ألمانيا حول قواعد الاتحاد الأوروبي محاولا اقتناص استثناءات لبريطانيا، فطاولة عشاء جمعته بميركل والملكة، غطت على جهوده، حين قالت إليزابيث الثانية: “حذاري من تقسيم أوروبا”.