كتب ألان سركيس في صحيفة “الجمهورية”:
خلط أوراق، تحالفات بدأت تتبلور، أمل في سياسات جديدة، قراءة في الماضي لإستخلاص العبر… هكذا تبدو حال الرهبنة اللبنانية المارونية الحبريّة قبل أشهر قليلة على انتخاب رئيس عام جديد لـ”الجيش الأسود” بإشراف الفاتيكان، حيث يتعدّى الموضوع الإستحقاق الديني المحلّي ليصل إلى دور الرهبنة وتأثيرها في السياسة الوطنية العامة.تتميّز الساحة المارونية بالحيوية الدائمة على اعتبار أنّ المسيحيين كانوا رواد التطوّر وزرع بذور الديموقراطية في الشرق. ومن هذا المنطلق استكملت المؤسسات المارونية بلورة الأطر التنظيمية العامة لها وتجديد بنيتها.
وفي حين شهدت “المؤسسة المارونية للانتشار” انتقالاً سلساً بين الوزير السابق ميشال اده ونعمة افرام، سارَت “الرابطة المارونية” في الاتجاه ذاته مع انتخاب النقيب انطوان قليموس رئيساً لها.
لا يكفي الموارنة التغنّي بأمجاد الماضي، وإلّا يُصبحون مثل العرب الذين وصلوا بفتوحاتهم الى الأندلس ويعيشون ما يعيشونه الآن. السكرة المارونية بالماضي انتهت، لكنّ ما شاهدوه بعد الإستفاقة منها كان مؤلماً للغاية، إذ إنهم خسروا تقريباً كلّ شيء ولم يبقَ لهم سوى البكاء على تلال تنورين وبشري والعاقورة، معاقلهم التاريخية الأولى.
قد تكون إعادة تفعيل المؤسسات المارونية من أولويات المرحلة المقبلة، وفي هذا الإطار تأتي انتخابات الرهبنة اللبنانية المارونية في أواخر الصيف المقبل مناسبة للتجديد والتغيير، خصوصاً أنها أكبر الرهبانيات وتُعتبر العامود الأساس في مساعدة البطاركة على بناء لبنان وتدعيم بنيانه.
لا شك في أنّ للرهبنة خصوصيّتها، والانتخابات تحصل وراء العازل، إلّا أنّ هناك تيارات عدة وآراءً متنوّعة تظهر قبل الانتخابات ما يُصعّب التكهن بالنتيجة:
– التيار الأول يُمثل خطّ الرهبنة أيام المقاومة اللبنانية، أي الفترة الممتدة بين عامي 1975 و1990، والذي كان السند الأول والداعم للاحزاب المسيحية وقد أنشأ “الجبهة اللبنانية” التي كانت تجتمع في الكسليك. وهذا التيار الذي انكفأ بعد كفّ يَد الرهبنة عن الشأن العام، غير راضٍ عن السياسة الحالية المنتهجة في الرهبنة وعدم تدخّلها للمساعدة في فرض حلول، وأقله فعل أيّ شيء لإنتخاب رئيس للجمهورية.
ويؤكّد القيّمون على هذا التيار أنهم سيقولون كلمتهم في الانتخابات ولن يقفوا على الحياد مثلما كانوا يفعلون سابقاً، وربما سيستطيع هذا التيار قلب
النتائج من خلال دعم أحد المرشحين.
– التيار الثاني أدار الرهبنة من التسعينات حتى اليوم، وهو وإن كان يملك الأرض، لكنّ الجو العام يطالب بالتغيير وتفعيل الأداء، علماً أنّ الحجج والأجوبة التي يعطيها رداً على سبب انكفائه مقنعة مقارنة مع الواقع.
وهذا التيار يريد إستكمال عملية إبعاد السياسة من الرهبنة وحصر دورها في الشؤون الرعوية والتعليمية فقط، على رغم أنّ هذا الموضوع وعلى أهميته لا يُلاقي تطلعات المسيحيين الذين يتوقون الى رؤية الدور الوطني الذي اضطلعت به الرهبنة منذ تأسيسها حتى نهاية الحرب الأهلية.
– التيار الثالث هو التيار الكلاسيكي الذي كان يتأثر برئاسة الجمهورية نظراً الى ما تشكله من أهمية في القاموس الوطني والماروني. فرئاسة الرهبنة العامة كانت دائماً الى جانب رئيس الجمهورية. لكن وفي ظلّ غياب الرئيس يفقد هذا التيار البوصلة، ويسعى كلّ مرشح أو فريق الى جذبه لجانبه.
– أما التيار الرابع فيتأثّر بجوّ الأحزاب المسيحية والقيادات، لكنّ ذلك لا يعني تدخلاً سياسياً لأنّ الإنسان إبن بيئته.
غير أنّ السؤال الأهم يتعلّق بالأسماء المرشحة، بحيث يُوحي الجوّ العام حتى الساعة بوجود عدد لا بأس به من المرشحين غير الظاهرين الذين يجسّون النبض قبل دخول المعركة، لأنّ الحملات الانتخابية في الرهبنة تحصل بعيداً من الاعلام، مع العلم أنّ عدداً من المرشحين يعقدون اجتماعات جانبية ويحاولون كسب أكبر عدد من المؤيّدين.
كلّ ما تشهده الرهبنة هو دليلُ غنى وليس تشرذماً، ومع أنه من المبكر الحديث عن أسماء جدّية، إلّا أنّ البرنامج أهمّ من جميع الأشخاص، إذ إنّ الجوّ العام الماروني الضاغط بات يتطلب قيادات تواكب أحلامه وتطلعاته، خصوصاً بعدما حُفرت في ذاكرته صورة الراهب الماروني الذي يحمل المعول ويفتّت الصخور في الجبال ليؤمّن معيشة شعبه، ويبني الوطن.
قد يكون الكلام عن تيارات داخل الرهبنة أمراً واقعاً، لكن ماذا سيكون دور بكركي في ترجيح دفّة مرشح على آخر على رغم تأكيدها أنها لا تتدخل في شؤونها، وكيف سيكون تأثير الفاتيكان وهل سيحلّ الروح القدس من كرسي القديس بطرس، أو ستكون العملية محلّية بحتة؟