كان لافتاً بيان وزارة العمل أمس بشأن عمليات الصرف التعسفي. فالوزارة أقرّت بأنّ هناك مئات الأجراء يُطردون من عملهم أمام أعينها ومن دون أي تدخّل منها لحمايتهم، مستغلة ذلك لترويج أن الصرف من العمل سببه إحلال العمالة السورية بدلاً من العمالة اللبنانية. بيان الوزارة هو فضيحة بحدّ ذاته، لأنه يتغافل أو يتعامى عن سلوك الشركات وقيامها بعمليات صرف متواصلة تطاول الأُجَراء اللبنانيين الأكبر سنّاً والأعلى راتباً لإحلال عمالة شابة لبنانية وأجنبية بأجور أقلّ متسلحة بالفقرة (و) من المادة 50
محمد وهبة
أعلنت وزارة العمل، أمس، أن شركة «اميرالد وجتس» أقدمت على صرف طيارين لبنانيين ومساعد طيار لبناني، «قبل إنهاء التشاور مع الوزارة بمقتضى المادة 50 فقرة “و” من قانون العمل».
وأعلنت أيضاً أن جمعية إنقاذ الطفل الدولية ومجلس اللاجئين الدانماركي قدّما طلبين الأسبوع الماضي للتشاور بشأن صرف العمال، لكن بيان الوزارة استدرك تقديم الطلبات للإشارة إلى أن «الجمعية المذكورة صرفت 280 عاملاً لبنانياً من أصل 585 عاملاً، وصرف مجلس اللاجئين الدانماركي 386 عاملاً لبنانياً من أصل 728 عاملاً لبنانياً، فيما أُبقي على العمال الأجانب». وأعلنت الوزارة أيضاً وأيضاً أن «إدارة فندق “كورال بيروت” – الحمرا أقدمت على صرف 9 أجراء لبنانيين، رغم طلبها إجراء التشاور على أساس المادة “50”، إلا أن الإدارة لم تلتزم موجباتها القانونية وفق هذه المادة لإعطاء المصروفين حقوقهم». أما بالنسبة إلى طلبات التشاور التي تلقّتها الوزارة هذا الأسبوع استناداً إلى الفقرة (و) من المادة 50 من قانون العمل، فهي على النحو الآتي:
ــ جمعية الإغاثة الدولية تطلب صرف 103 أجراء.
ــ شركة المرافق والخدمات (أوسكو) المتعاقدة مع كهرباء لبنان، تطلب صرف 590 أجيراً.
ــ مطعم أوتار يطلب صرف 100 أجير.
الخفّة كانت سمة تعامل وزارة العمل مع طلبات الصرف الجماعية. حاولت الوزارة تحويل هذا الوضع المأسوي إلى «بطولات» من خلال ربطها بالنزوح السوري. فقد عبّرت الوزارة عن أسفها «لهذا النهج المعتمد في عمليات الصرف للعمال اللبنانيين واستبدالهم بالأجانب وتحديداً اليد العاملة السورية التي باتت تشكل أكثرية العاملين في سوق العمل اللبناني».
ولم تكتفِ الوزارة بتقديم استنتاجات خاطئة ترمي إلى تعزيز الموقف السلبي من اللاجئين، بل أشارت إلى أنها ستمضي «في مكافحة هذه الظاهرة الخطيرة من منطلق حرصها على المحافظة على اليد العاملة اللبنانية، وهي تنبّه هذه الجمعيات إلى خطورة ما أقدمت عليه في هذا السياق، حيث لا يمكنها التغاضي عن هذا التصرف الذي يتنافى مع أهداف هذه الجمعيات في الإعانة والإغاثة والرعاية الاجتماعية، وهي ستضطر إلى اتخاذ التدابير القانونية اللازمة لحماية اليد العاملة اللبنانية».
سلوك وزارة العمل العنصري بات مألوفاً، ولا سيما في ظل تنامي ظاهرة الصرف الجماعي من العمل بذريعة وجود النازحين السوريين في سوق العمل المحلية. فبحسب وزير العمل السابق شربل نحاس، إن «الصرف الجماعي لم يبدأ أصلاً مع النازحين السوريين، وهذا النوع من الصرف المستند إلى الفقرة (و) من المادة 50 من قانون العمل، هو قصّة قديمة ومتمادية».
كان الأجدى بوزير العمل المستقيل سجعان قزّي، أن يكشف عن الإحصاءات الرسمية لعمليات الصرف الجماعي التي تقوم بها المؤسسات والشركات على مدار السنوات الماضية، وإجراء مقارنة واضحة بين الأرقام بدلاً من تقديم مبرّرات وذرائع الصرف الجماعي للشركات والمؤسسات. اللافت أن «وزارة العمل والدولة عموماً، لكونها لم تقم بأي عمل لتوثيق وجود اللاجئين في لبنان، لم يعد لديها وسيلة لمعرفة حجم ظاهرة استبدال العمالة السورية بالعمالة اللبنانية، وبالتالي ليس هناك صورة واضحة عن هذا الأمر».
أما بطولات وزارة العمل، فهي وهمية لأن الأدوات القانونية والإدارية التي تملكها الوزارة لا تتيح لها أي «مكافحة» لأي ظاهرة. ويقول نحاس إن «وزارة العمل تتدخل استباقياً في منح أو عدم منح إجازات العمل للعمال الأجانب. هذه الإجازة تعد شرطاً سابقاً لدخولهم إلى لبنان، إلا أن دخول النازحين السوريين جاء في إطار منطق النأي بالنفس الذي عطّل هذه الأداة الاستباقية بكاملها، فلم يتحدّد أي السوريين الذين أتوا للعمل أو الذين أتوا لسبب أمني». كذلك، كان يمكن أن تتدخل وزارة العمل من خلال عمليات التفتيش التي تقوم بها أجهزتها المعنية بناءً على شكوى أو على مبادرة جهازها «إلا أن هذه القدرة محدودة التأثير بشكل كبير، فالإجراءات بمستواها الأعلى هي وساطة عمل وإنذارات وسواها من الإجراءات التي لا تصل إلى المستوى الزجري والمنع» وفق نحاس. «القدرة الوحيدة المتاحة للمؤسسات تكمن في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، حيث للتفتيش على المؤسسات القدرة على فرض غرامات واتخاذ تدابير أخرى».
المشكلة الكبيرة التي تواجه الصرف الجماعي هي قانون العمل، ولا سيما الفقرة (و) من المادة 50 من قانون العمل. لطالما شكّلت هذه الفقرة السند الأكبر لأصحاب العمل في مواجهة العمال، فاستندوا إليها كلما أرادوا القيام بعملية صرف.
تنصّ الفقرة (و) من المادة 50 على الآتي: «يجوز لصاحب العمل، إنهاء بعض أو كل عقود العمل الجارية في المؤسسة إذا اقتضت قوّة قاهرة أو ظروف اقتصادية أو فنية، هذا الإنهاء، كتقليص حجم المؤسسة أو استبدال نظام إنتاج بآخر، أو التوقف كلياً عن العمل. وعلى صاحب المؤسسة أن يبلغ وزارة العمل رغبته في إنهاء تلك العقود، قبل شهر من تنفيذه، وعليه أن يتشاور مع الوزارة لوضع برنامج نهائي لذلك الإنهاء تراعى معه أقدمية العمال في المؤسسة واختصاصهم وأعمارهم ووضعهم العائلي والاجتماعي، وأخيراً الوسائل اللازمة لإعادة استخدامهم».
هذه الفقرة استخدمت طوال سنوات لإنهاء عقود عشرات آلاف العمال والعاملات من دون أن تكون لوزارة العمل القدرة على مواجهة أصحاب العمل. ويشير نحاس إلى أن «قانون العمل فيه ثُغَر واسعة، فالفقرة المذكورة لا تحدّد الشروط الاقتصادية للصرف ولا تحدّد القوّة القاهرة أو الظروف الاقتصادية. فالمطلوب أن يتاح للوزارة الدخول إلى حسابات الشركات ومعرفة حجم الخسائر وتقدير إمكانية الاستمرار أو التوقف… كل حركة التشاور تصل إلى الصرف، سواء مرّت بتسوية أو من خلال مجلس العمل التحكيمي».
يشير نحاس إلى أنه خلال توليه الوزارة وضع مشروعاً لتفصيل وتحديد الشروط الاقتصادية للصرف، لكن جرى رفضها بكاملها من أجل الحفاظ على النظام المعمول فيه حالياً. «هذا الأمر هو لخدمة أصحاب النفوذ الفعليين في لبنان».
ترك العمل يزداد
يركّز بيان وزارة العمل على معطيات وردت إليها من دون أي مقارنة مع قاعدة المعطيات المتوافرة بين يديه. فمن المعروف أن وزارة العمل هي سلطة الوصاية على الضمان الاجتماعي الذي يملك إحصاءات دورية عن أعداد الأجراء الذي عمدوا إلى تصفية تعويضات نهاية خدمتهم بداعي «ترك العمل». وفق مصادر مطلعة، إن أعداد تاركي العمل كان يراوح بين 10 آلاف و11 ألفاً قبل الأزمة السورية، لكنه ارتفع اليوم إلى نحو 12 ألفاً ويتوقع أن يزيد العدد في نهاية هذه السنة على 13 ألفاً، وهذا مؤشّر على حجم الصرف في القطاع الخاص. الأسباب قد لا تكون مرتبطة أبداً بالعمالة السورية، بل بعوامل أخرى متصلة بطبيعة السوق المحلية ذات التركّز المرتفع والاحتكارات المختلفة وسلوك أصحاب العمل الساعين إلى زيادة درجة الاستغلال.