كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
«حزب الله» بعد الانتخابات البلدية مختلف عمّا قبلها. و«الحزب» بعد قانون العقوبات الأميركية وتردّداته اللبنانية وانفجار بنك «لبنان والمهجر» مختلف عمّا قبل ذلك. والأرجح أنّ جردة حسابات «الحزب» في هذه الأيام ستقوده إلى تغيير في التكتيك، مع ثبات في الاستراتيجيا.كل الأحزاب اللبنانية خرجت جريحة من معارك الانتخابات البلدية. هذا ما حصل لدى المسيحيين والسنّة والشيعة والدروز. لقد فؤجئت بمعظمها، ومعها فوجئ المراقبون والمحللون بالنتائج السياسية التي أظهرتها.
وتنكبّ الأحزاب والقوى السياسية كلها على مراجعات أو على مؤتمرات تنظيمية رغبة في النجاة من استحقاق قد يكون أشدّ خطراً عليها هو الانتخابات النيابية التي تستدعي ولادة حكومة جديدة. وفي مستوى أدنى، تقيم القوى السياسية أهمية للانتخابات الرئاسية.
وإذ توحي النظرة الأولى بأنّ الرئيس سعد الحريري والسنّية السياسية هما المعنيان بالمراجعة في الدرجة الأولى، هناك انطباع في بعض الأوساط بأنّ «حزب الله» قد يكون المعني الأول.
فصحيح أنّ «الحزب» لم يخسر مواقع بلدية إجمالاً، لكنّ الواقع الشيعي أظهر تنوعاً هو الأول من نوعه بعد «الطائف». وفي الانتخابات البلدية، كان النظام الأكثري قارَبَ نجاةِ القوى السياسية كلها، بما فيها «حزب الله». فلو كانت النسبية هي المعتمدة لكانت الأحزاب كلها، في كل الطوائف، ستُخرَق بما يقارب الـ40 في المئة إجمالاً.
والنسبية التي يطالب بها «الثنائي الشيعي» اليوم مبنية على أساس لبنان كله، أو على المحافظة في الحد الأدنى، دائرة انتخابية واحدة. وفي اعتبار «الثنائي» أنّ ذلك يتكفّل له بالاحتفاظ بالحصة داخل البيئة الشيعية وتحصيل المكاسب السياسية، عبر الحلفاء، داخل البيئات الأخرى، فتكون المحصلة انتصاراً شاملاً.
لكن اعتماد النسبية في الانتخابات المقبلة يبقى موضع تجاذب. وثمة مخاوف من مناورات يقودها الجميع وتنتهي بواحد من خيارين: إمّا التمديد للمجلس النيابي مجدداً وإمّا إجراء الانتخابات النيابية بقانون الأمر الواقع، أي قانون 1960.
وفي أي حال، ثمة من يعتقد أنّ «حزب الله» يدرس اليوم كل الاحتمالات بكثير من الدقّة، خصوصاً بعدما تقاطعت المعطيات التي تدعوه إلى الحذر والتيقظ إزاء ما ستحمل إليه المرحلة المقبلة على كل المستويات، وأبرزها ما يأتي:
1 – ينظر «الحزب» بتمعّن إلى المتغيرات السياسية التي أظهرتها الانتخابات البلدية، ليس فقط في البيئة الشيعية، بل أيضاً في بيئات طوائفية أخرى. ومن المفارقات مثلاً أنّ الضربات التي تلقّاها الحريري، خصمه السياسي الأول، تشكل رسالة سياسية له أيضاً.
فصحيح أنّ هذه الضربات جاءت من قوى المجتمع المدني في بيروت، ومن قوى «8 آذار» في الضنية وعكار ومناطق أخرى، لكنها جاءت من قوى سنّية «على يمين الحريرية» في طرابلس وسواها. وهذه القوى تأخذ على الحريري أنه «يتساهل» مع «حزب الله».
ولذلك، يكون منطقياً التنويه بالمفارقة الآتية: إنّ إضعاف الحريري، ضمن بيئته وتحت هذه العناوين تحديداً وفي هذه المرحلة، هو إضعاف للقوى المنفتحة على محاورة «حزب الله» داخل البيئة السنّية، بل هو إضعاف لـ»الحزب» في شكل غير مباشر!
2 – جاء توقيت استهداف «الحزب»، مباشرة بعد الانتخابات البلدية، بالقانون الأميركي الرامي إلى تجفيف مصادر تمويله، وما أثاره من بلبلة مع قوى سياسية ومرجعيات مالية معنية، ليزيد من دقة الظروف التي يحتاط لها «الحزب».
لكنّ الأهم هو أنّ الانفجار الذي استهدف مقر بنك «لبنان والمهجر» يتحمّل أسئلة كثيرة، وأبرزها: لمصلحة مَن هذا الاستهداف؟ وفي عبارة أشدّ وضوحاً، هل هناك مَن أراد الاصطياد في الماء العكر في هذه اللحظة الحسّاسة؟ ولذلك، يلتزم «حزب الله» الصمت إزاء الانفجار.
3 – يجدر التفكير في الحيثيات والملابسات التي ربما رافقت التطورات الأخيرة في الميدان السوري، والمتعلقة بمجموعة من مقاتلي «الحزب».
4 – يجدر التعمّق في مغزى التحذيرات من تفجير أمني وعمليات توتير وكشف لخلايا ومخططات إرهابية على الساحة اللبنانية.
5 – يتخوّف «الحزب» من مفاجآت قد يتم تبييتها في المحكمة الدولية، لتفجيرها في أي لحظة.
ويدرك «الحزب» أنه مستهدف، وأنّ الحصار الأميركي ستشتدّ قبضته في المرحلة المقبلة، لا على المستوى المالي فحسب بل أيضاً على المستوى الديبلوماسي والسياسي. فالذين يرتبطون بـ»الحزب» سيتعرضون للمقاطعة عربياً وإقليمياً ودولياً. وفي الداخل، سيتم الإيعاز أو الإيحاء للذين يَمون عليهم الأميركيون بعدم التحالف مع «الحزب» سياسياً في الانتخابات المقبلة.
كما ستتم المطالبة مجدداً بعدم إشراك «حزب الله» في الحكومة المقبلة، علماً أنه اليوم الطرف الأقوى في الحكومة والمجلس النيابي والمعادلة السياسية عموماً. وهذا الواقع ربما يدفع «الحزب» إلى التمسّك بالحكومة الحالية والحرص على عدم إسقاطها لأنها الأفضل له، ولأنه ليس مضطراً إلى المغامرة بخوض تجربة تشكيلة حكومية جديدة.
وللأسباب إيّاها، يفضّل «الحزب» استمرار المجلس النيابي الحالي إذا لم يكن قانون الانتخابات النيابية مناسباً تماماً له ومطمئناً إلى النتائج، على الأقل حتى انتهاء ولاية المجلس الممدّدة في ربيع 2017. ففي ذلك الحين، تكون قد ظهرت معطيات جديدة أبرزها مجيء رئيس جديد إلى البيت الأبيض.
وهكذا، فإنّ «الحزب» بات يخشى، أكثر من أي يوم مضى، انهيار حكومة الرئيس تمام سلام، وأن تؤدي الاستقالات التي تصيبها إلى إضعافها وتحويلها جسماً ميتاً يسهل تبرير التخلّص منه في أي لحظة.
وفي ظل المعطيات السياسية الجديدة، ليس مؤكداً أنّ رئاسة الحكومة المقبلة ستكون للرئيس سعد الحريري. وإذا كانت الانتخابات النيابية قد سبقت تأليف الحكومة، فمن يضمن أن تفرز هذه الانتخابات نتائج ملائمة لعودة الحريري؟
أما إذا تمّت الانتخابات الرئاسية أولاً، فـ»الحزب» سيتشدّد في إيصال الشخص الذي يطمئنّ إلى أنه يوفّر له الضمانة الكبرى ويساعده من موقعه على توفير الحماية اللازمة له. وهذا يعني أنّ «الحزب» قد يكون في صدد قراءة جديدة لملف الانتخابات الرئاسية، سواء من حيث هوية الرئيس الجديد أو من حيث اعتماد التوقيت المناسب لملء الفراغ الرئاسي.
وعليه، فإنّ ما يتعرّض له اليوم «حزب الله» سيدفعه إلى مقاربة جديدة للوقائع على الساحة الداخلية، وإلى اعتماد تكتيك جديد يلائم المرحلة. وهذا التكتيك يقضي بالإبقاء على الحكومة والمجلس والتأني أكثر في الانتخابات الرئاسية، والتيقظ جيداً من «الشاردة والواردة» أمنياً وسياسياً.
صحيح أنّ «الحزب» يرغب في انهيار تركيبة الحكم الحالية وصولاً إلى المؤتمر التأسيسي، لكنه في الوقت عينه يخشى أن يتمّ انفراطها عشوائياً بحيث يفقد أوراق القوة التي يمتلكها، ولا يعود قادراً على إنجاز البديل الذي يطمح إليه.
إنه اختلاف التوقيت، أو الخلل في التوقيت بين الساعة الداخلية والساعة الإقليمية – الدولية. و«حزب الله»، الأكثر دينامية عند التقاطع المحلي- الإقليمي- الدولي، هو الأكثر حرصاً على ألّا يقع في خطأ الفوارق في التوقيت. وهو يستفيد في ذلك من خبرته العسكرية في اجتياز حقول الألغام، وهي خبرة تنطبق على السياسة كما على العسكر.