Site icon IMLebanon

لبنان من الوصاية السورية إلى الوصاية الأميركية إلى …؟

 

 

كتب سامي كليب في صحيفة “السفير”:

 

ليس غريباً أن يتهافت مسؤولون لبنانيون على تطبيق الإملاءات الأميركية على المصارف اللبنانية. كثير منهم كان هو نفسه حتى الأمس القريب يهرع لتطبيق الإملاءات السورية المصرفية والسياسة والأمنية. منذ الجلاء الفرنسي عن لبنان يستسيغ السياسيون عندنا التبعية للخارج. لا يختلفون إلا بشأن هوية من يتبعون. اللائحة تطول: الغرب، ايران، السعودية. منهم من ذهب حتى إسرائيل، وبعضهم لا يزال يرى سوريا هي الفيصل بالرغم من مآسيها ودمارها.

كان عهد “الوصاية” السوري مُذلاً لهؤلاء المسؤولين يمينا ويسارا ووسطا (نادرون جدا من لم يقبلوا الذل). كان قاسيا أيضا حتى مع من أصبحوا أبرز الحلفاء، أي “حزب الله”. ثمة ملفات وتقارير ووشايات لبنانيين ضد لبنانيين وصور وفيديوهات ومحاضر اجتماعات منذ عهد الحاكم السوري للبنان سابقا اللواء غازي كنعان الى عهد خلفه الأقل احتراماً للبنانيين رستم غزالة. لو نشرها السوريون يوما لشكلت فضيحة العصر أو “ويكيليكس” الخجل والذل. مع ذلك لا أحد يخجل، وينتقل من وصاية الى أخرى. ارتضى السياسيون اللبنانيون الإذلال السوري، فأذلهم بقدر ما يستحقون. كان يختار منهم من يريد لهذا المنصب الحكومي أو ذاك، ويُبعد من يشاء. وهم ينصاعون طواعية أو مكرهين، وفي الحالتين شاكرين. لنتذكر عشقهم لعبارة “سين سين” أي التسوية السعودية السورية بالرغم مما فيها من تبعية.

لماذا هذه المقدمة؟ لأنه الآن، تهب النخوة، وترتفع الأصوات بشأن السيادة والاستقلال. هي الأصوات نفسها التي تُشرِّع الأبواب للقوانين الأميركية من دون نقاش. تكاد تعتقد بعضَهم وزير الخزانة الأميركي نفسه. حتى حاكم المصرف المركزي الاستثنائي بذكائه وحسن إدارته لهذه المؤسسة المالية التي حمت الليرة طويلا رياض سلامة، يكاد ينزلق الى هذا التهافت. يجتمع بـ “حزب الله”. يتفقان على ورقة. يذيع ورقة مخالفة. ربما بفعل ضغوط المصارف وضغوط سياسية محلية وأميركية وغيرها. ثم يقدّر أن الانزلاق في لبنان صعب حيال حزب بضخامة “حزب الله” وسلاحه وقبضته وشعبيته وبيئته الغنية. يتراجع قليلا. يلاقيه الحزب بترحيب مشروط. تُقلب الصفحة. وضعت أميركا منذ سنوات طويلة اسم أحد أكثر رجال الدين المسلمين انفتاحا السيد الراحل محمد حسين فضل الله على لوائح العقوبات بتهمة تفجير مقر المارينز وغيره. يسارع مصرف societe generale الى وقف حسابات مؤسسات طبية ومستشفيات ومدارس وغيرها تابعة للمبرّات الخيرية، ثم ينتبه الى أنه ارتكب خطأً. تكاد الفوضى تضرب أحد أهم شرايين لبنان، الاقتصاد المصرفي. يقع تفجير مدروس بدقة أمام بنك لبنان والمهجر، تُطلق الاتهامات السياسية قبل التحقيق. نتذكر الاتهامات بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

ليس هذا الكلام دفاعاً عن “حزب الله”. بل دفاع عن بعض كرامة لبنانية، ودفاع عن قانون لبنان وعن أهل القضاء. أليس حرياً بنا أن نحقق وندقق ونبحث عن مصلحة لبنان قبل أن نطبق دون بصر وبصيرة؟ ليس “حزب الله” بريئا طبعاً. يعتز به لبنانيون وعرب كثيرون لدوره المقاوم الذي لم يأت قبله ولا بعده من هزم إسرائيل بمثل ما هزمها وأسس لتوازن رعب معها. لكن الحزب ايضا صار جزءا من منظومة وفكر ومعادلة إيرانية في المنطقة. ليس مهماً اذا كان السيد حسن نصرالله هو الذي يقترح على ايران ما يجب عمله أو اذا كانت هي التي تقترح عليه، الأهم أن الحزب وضع نفسه في استراتيجية إقليمية تتخطى لبنان وتدفعه الى صراع مع دول عربية هي في صراع حاليا مع ايران. كان لهذا الانخراط الإقليمي الذي تخطى بتطرفِ خطابِه الخطاب الايراني نفسه ثمنه في البيئة العربية التي على ما يبدو تأثرت بما أريد له ان يكون صراعا سنياً شيعياً.

تبعد القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس عن لبنان كيلومترات قليلة. عند الشواطئ اللبنانية والسورية ثروة نفطية هائلة. مرفأ طرابلس سيكون أحد أبرز موانئ إعادة إعمار سوريا. عُقدت مؤتمرات عديدة بينها في أميركا نفسها. عُرضت خرائط. قُدر المبلغ بأكثر من 200 مليار دولار. هل سيكون لبنان المقبل إذاً ساحة تفاهم أميركي روسي، أم يبقى في الكنف الأميركي مقابل الكنف الروسي في سوريا. كل شيء معلَّق على مآلات الحرب السورية.

حين طُرح التقسيم لسوريا، تبين لاحقا انه لو حصل لن يخدم خصوم محور المقاومة بقدر ما كان مأمولا، بل قد يخدم هذا المحور سياسيا واقتصاديا وأمنيا. هذا على الأرجح ما يفسر التراجع عنه إضافة الى طمأنة تركيا حيال رفض قيام دولة كردية في الشمال السوري.

ثمة مناخ عام في المنطقة يراد له تطويق “حزب الله” نرى انعكاساته الجلية في لبنان. عقوبات أميركية وغربية. عقوبات خليجية ثم عربية. وضع الحزب على لوائح الإرهاب. ضغوط في الكونغرس الأميركي لدفع الأوروبيين الى تحويل كل الحزب، لا جناحه العسكري فقط، الى منظمة إرهابية على اللوائح. لا يمكن مطلقا فصل الضغوط المصرفية اللبنانية وارتفاع لهجة خصوم الحزب ضده وبعض نتائج الانتخابات في الشمال وغيره، إلا في سياق إيجاد آلية أخرى رديفة للمحكمة الدولية بغية زعزعة ليس فقط البيئة اللبنانية بل البيئة الشيعية أيضا تحت أقدام الحزب. حين تُطرح خريطة التطويق هذه أمام مسؤول كبير من “حزب الله”، يبتسم ويقول: “وهل نحن جالسون ننتظر كل ذلك ولا نتحرك، إن دورنا في لبنان والمنطقة يستدعي من الخصوم هجوماً أكبر من الذي نراه، فهذا طبيعي”.

ما عاد أحد في الواقع، يصدق أنه قادر على الحسم العسكري. لا يوجد عاقل يؤمن بأن أحدا سينتصر. محور المقاومة نفسه يتحدث عن تسوية في نهاية المطاف “تحفظ ماء وجه الجميع”. يقول أحد كبار مسؤوليه: “إن ما يهمنا هو بقاء الدولة السورية والجيش والرئيس الأسد، وإننا نرى للمرة الأولى الروس يتحدثون عن تفاصيل التسوية الممكنة ويضعون الخطوط الحمراء، ونحن معتادون في تاريخنا وعقيدتنا على الحروب الطويلة. لا ننتظر أن تنتهي الحرب السورية بين ليلة وضحاها، لكننا نعرف أن بعض الأطراف المنخرطة فيها بدأوا يدركون استحالة تغيير المعادلة، واستحالة إسقاط النظام، هم أيضا يبحثون عن تسويات، يحاولون الضغط بشأن الأسد … سننتظر اذاً حتى يقبلوا لاحقا ما لا يقبلونه الآن، أما من يراهن على تراجع روسيا، فهي لو تراجعت فسينكفئ دورها حتى حدود موسكو، مصلحتها في عدم التراجع”.

ماذا لو كثفت السعودية ضغطها العسكري؟ هذا ممكن بعدما بدأت ترتاح من عبء الحرب اليمنية. هذا ممكن أيضا في أعقاب الزيارة الثالثة التي قام بها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الى أميركا ولقائه “الودي والصريح” مع الرئيس باراك أوباما (وفق توصيف وزير الخارجية عادل الجبير). هذا ممكن ثالثا بعد تحرك آلة أميركية جديدة تطالب بعمل عسكري في سوريا وتؤيده الرياض تمهيدا على الأرجح لخطوات قد تقدم عليها هيلاري كلينتون لو فازت. (مذكرة 51 موظفاً في وزارة الخارجية الأميركية ليست بريئة).

جواب المسؤول الكبير في حلف المقاومة: “يجب أن تدرك السعودية أن الرد عليها لن يقتصر هذه المرة على سوريا بل في العراق وربما أبعد من ذلك، لأن تعاونها مع إسرائيل صار مكشوفاً”.

ما علاقة لبنان بكل ذلك؟ اجتماع الرئيس السوري بشار الأسد مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو يشي بجبهات مقبلة وقريبة في سوريا وباحتمال عودة موسكو للانخراط عسكريا وبمزيدٍ من القوة. إلا أن القيادة الروسية ترد أيضا بذلك على قرار الأطلسي نشر 4 كتائب في 3 دول في البلطيق مجاورة لروسيا وفي بولونيا. سوريا صارت منذ بداية الحرب فيها ساحة كبيرة للصراع الروسي الأميركي. كان تحذير الرئيس فلاديمير بوتين واضحا قبل يومين بقوله في منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي: “في حال تفكك الدولة السورية، ستظهر مكانها دويلات مختلفة وان الأمر سيؤدي الى زعزعة الاستقرار في المنطقة”.

صحيح أن واشنطن وموسكو عادتا للاتفاق على تنسيق العمليات في سوريا بعدما قصفت القوات الروسية مسلحين درّبتهم واشنطن، لكن الأصح أن الصراع لا يزال كبيرا وأن الحرب السورية تبقى باروميترَ مهماً في السياسة الدولية والإقليمية المقبلة.

كل طرف سيسعى في المرحلة المقبلة لإضعاف أدوات الطرف الآخر. “حزب الله” سيكون مستهدفاً أكثر من أي وقت مضى أمنياً في سوريا وربما في لبنان، وسياسياً خصوصاً، المطلوب أن يبقى لبنان في المرحلة المقبلة تحت الوصاية الأميركية والغربية لا أن يقترب أكثر من قاعدة طرطوس.