كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
المواقف الأميركية – الروسية المتناقضة والمتضاربة الى حدّ الإيحاء بوجود خلافات كبيرة وجذرية بين واشنطن وموسكو حيال كامل النظرة الى سوريا، يفضحها التناغم الكامل الحاصل بينهما ميدانياً وعلى رقعة العمل العسكري، ما يؤكّد وجود تفاهم عريض بين الدولتين اللتين تسعيان إلى حجبه عن الانظار من خلال القنابل الدخانية الناجمة من المواقف المتناقضة.
قد تكون صدفة معبّرة جداً أن يزور وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الرئيس السوري بشار الأسد للبحث في نقاط الخلاف حول حلب خصوصاً في الوقت الذي كان فيه الرئيس الأميركي باراك اوباما يلتقي وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في البيت الابيض.
أخيراً، عقد اجتماع ثلاثي في طهران ضمَّ وزراء دفاع روسيا وايران وسوريا، كان محط أنظار ومتابعة كثيرين نظراً لأهميته، لجهة سير المعارك في سوريا ورسم الخطوط الحمر الميدانية. وقد تفاهم خلاله المجتمعون على خطّة عمل عسكرية مشتركة في بعض المناطق والجبهات، فيما استمرّ الخلاف على جبهات أخرى، وفي طليعتها حلب.
ذلك أنّ استرجاع المدينة التي عُرفت يوماً بالعاصمة الاقتصادية لسوريا، وهو الهدف الذي أصرّ عليه الاسد ولا يزال لأسباب عدة أبرزها وجود ثقل سنّي غير معادٍ له، هذا الاسترجاع بقي محطّ معارضة روسيا حيث أعلن وزير دفاعها صراحة تمنّع قواته عن المشاركة في أيّ عمليات عسكرية طابعها هجومي في حلب وريفها.
لكنّ الوزير الروسي بدا متحمّساً للذهاب الى استكمال معركة استرجاع دير الزور والرقة فيما طرأ جديد بإعلانه استعداد قواته الجوية وضع منطقة جنوب دمشق في اطار عملياتها العسكرية.
وبذلك، جرى رسم خريطة النفوذ بوضوح اكبر: أجزاء أساسية من حلب وادلب والجوار تبقى مناطق نفوذ للفصائل المعارضة ومن خلالها لتركيا والسعودية، اضافة الى أجزاء أخرى متفرّقة. وهذه المناطق تمسك بالشريان المائي لسوريا وتعتمد على الزراعة اضافة الى القوة الصناعية في حال استرجاع الدور الذي لعبته حلب سابقاً.
في المقابل، يستعيد النظام ومعه روسيا وإيران الرقة ودير الزور وحقول النفط الغنية، اضافة الى المناطق التي يسيطر عليها الآن بما فيها الشريط الساحلي الذي يشكل باب التواصل البحري الوحيد لسوريا مع العالم حيث القواعد العسكرية الروسية.
أما في المنطقة الشمالية القريبة من تركيا، فمركز نفوذ كردي لم يعد أحد قادراً على تجاوزه خصوصاً في ظلّ الاتكال الروسي والاميركي على المجموعات الكردية. من هنا وظيفة الحضور الاميركي والفرنسي والبريطاني وحتى الالماني: المشاركة في الإشراف على ترتيب تقاسم النفوذ داخل سوريا الغد، وتحاشي الانزلاق في مطبات حساسة وخطيرة قد تدفع الى الفوضى.
طبعاً لهذا الإشراف ثمنه وهو اقتطاع حصة ودور وحضور قرب تركيا ووسط المجموعات المتصارعة شمال سوريا التي يملك كلّ واحد منها ارتباطاً إقليمياً مختلفاً، كلّ ذلك يوحي بأنّ ثمّة تفاهمات كبرى حيكت في الكواليس وتقوم على أساس تقاسم سوريا لا تقسيمها، وإن كانت الصيغة التي باتت اقرب الى التطبيق هي الصيغة الفدرالية التي عارضتها وما زالت كلٌّ من تركيا وايران.
ولتأكيد وتثبيت خطوط التماس في حلب مثلاً، حكي عن غياب الدعم الجوي الروسي ما أدّى الى خسائر بشرية مرتفعة خصوصاً في الجانب الايراني.
ويُقال إنه مع غياب الدعم الجوي الروسي تستعيد الفصائل المعارضة الإمساك بزمام المبادرة الميدانية، ومع كلّ وقف لإطلاق النار تتفق حوله واشنطن وموسكو يضطر الجيش السوري ومعه القوى المساندة الى وقف هجوم يشنّه في اتجاه احدى مناطق ريف حلب بهدف استكمال حصار المدينة.
ولكنّ وقف إطلاق النار الذي يعلن عنه بذريعة الاسباب الانسانية، يسمح للفصائل المعارضة باستعادة أنفاسها وإعادة تجميع وتعزيز قواتها، وبالتالي يجهض الهجوم الحاصل. وبعد العديد من الوقائع المتشابهة التي أدّت الى سقوط خسائر كثيرة، بات الجيش السوري ومعه حلفاؤه على يقين بأنّ تطويق حلب خط أحمر دولي.
في سوريا بات للجيش الروسي زهاء 14 الف جندي معظمهم من الوحدات الخاصة، حيث شارك بعضهم في معارك كبيرة مثل تدمر التي شهدت سقوط جنديّ روسيّ. لكنّ الأهم هو وجود ضابط روسي داخل كلّ غرفة عمليات تابعة لكلّ لواء في الجيش السوري، ما يعني أنّ الحركة الميدانية مكشوفة بالكامل امام القيادة العسكرية الروسية.
وهو ما يعني أيضاً أنّ التأثير العسكري الاول في سوريا بات لروسيا على حساب ايران التي تراجع تأثيرها العسركي بعض الشيء. اضف الى ذلك أنّ تركيبة النظام السوري تتفاعل بسهولة وسرعة اكبر مع الجانب الروسي منه مع الجانب الايراني، ولا سيما أنّ الجيش السوري يعاني صعوبات في تجنيد مزيد من الجنود والعناصر.
لكنّ هذا لا يعني أبداً وجود تعارض كامل بين روسيا وايران في سوريا، إذ هناك خلافات على بعض النقاط والجوانب لكن تحت سقف التحالف والأهداف العريضة المشتركة. والواضح أنّ زيارة وزير الخارجية الروسي الى الأسد تدخل في إطار التنسيق بين حليفين ولكن لتعالج خلافات كبرى وافتراق مصالح.
فخلال أيام معدودة تنتهي معركة استرداد الفلوجة بالكامل لتبدأ بعدها معركة الموصل في العراق. في المقابل، يستمرّ اندفاع الجيش السوري في الرقة ودير الزور بمساندة روسية كاملة لملاقاة الجيش العراقي القادم من الموصل بمساندة أميركية كاملة.
يريد الرئيس الاميركي باراك اوباما تحقيق انتصار مدوٍّ على “داعش” لاستثماره في الحملات الانتخابية وهو الذي أعلن منذ يومين عن انتزاع 50 في المئة من الاراضي التي كانت تشكل دولة “داعش”. ولهذا الخبر وقعه القوي على الناخب الاميركي القابع تحت هاجس الارهاب والاستهداف. لكن في الوقت نفسه تأخذ خطة فرز المناطق في سوريا طريقها الى الأمام انسجاماً مع خريطة العمليات والتطوّرات العسكرية.
في السابق حُكي كثيراً عن احتراق او إحراق سجلّات الدوائر العقارية في حمص. واليوم صدر قانون في سوريا يسمح للدولة بوضع يدها على ممتلكات كلّ مهاجر أو غائب أو مسافر لم يتفقّد أملاكه لفترة محددة، على أن توضع قيمة أملاكه نقداً في حسابٍ مصرفي يمكن لصاحب العقار سحبه بعد إجراء المعاملات اللازمة.
وكلّ ذلك يعني أنه لا يزال أمام الحلّ في سوريا فترة طويلة تُقاس بالسنوات، وتقدرها جهات بريطانية بالخمس سنوات. فكسر شوكة “داعش” شيء، وإنهاء الحرب والمعارك شيء آخر. فالفرز والضم وترتيب الجغرافيا لا تزال في حاجة لمعارك كثيرة مثل منطقة جنوب دمشق التي ستشهد حصولها مستقبلاً.
لكنّ المطلوب من أشهر الصيف المقبلة، الانتصار على “داعش”، من جهة يوظفه الديموقراطيون في معركة البقاء في البيت الابيض ومن جهة اخرى يؤدي الى ترتيب مستقبل هذه المناطق ومصير آبار النفط والتواصل والتجاور بين سوريا والعراق الذاهب بدوره أيضاً الى الصيغة الفيدرالية.
ربما من هذه الزاوية يجب قراءة الازمة الرئاسية في لبنان. فكلّ شهر يمرّ يزداد الاهتراء داخل مؤسسات الدولة، ونقترب مسافة اضافية من حتمية المؤتمر التأسيسي، وإذا نظرنا قليلاً ناحية الشرق حيث سوريا والعراق، نجد مشاريع لدول جديدة، ما يدفع للاعتقاد أنّ المطلوب لبنانياً شراء الوقت لمفاقمة الازمة تمهيداً لوضع لبنان امام ورشة حتمية الاتفاق على صيغة جديدة بعد انهيار الصيغة الحالية مع انهيار ركائز المؤسسات القائمة عليها.
منتصف هذا الصيف يزور وزير خارجية فرنسا لبنان وسط اعتقاد واسع بأنه آتٍ لمعالجة ملف رئاسة الجمهورية.
في الحقيقة أنّ فرنسا التي منحتها الولايات المتحدة الاميركية دوراً ما في الشرق الاوسط بدليل وجودها العسكري الرمزي والمعبّر شمال سوريا، تبدو مهتمة بالنازحين السوريين في لبنان قبل أيّ شيء آخر. وحتى لا نخطئ الظنّ مرة جديدة، فإنّ هذا الاهتمام ليس أبداً من زاوية انسانية كما يدّعي الغرب، بل من زاوية التغييرات الديموغرافية التي تنسف وجه العراق وسوريا، ولم لا لبنان.
سامح الله الذين سهّلوا هذا الدخول على مختلف انتماءاتهم الطائفية والمذهبية. والأرشيف لا يزال يحفظ مواقفهم.