كتبت ناتالي اقليموس في صحيفة “الجمهورية”:
لم يتمنَّ إيلي (40 سنة) في حياته شيئاً لنفسه، مثلما تمنّى لو يُسمح له بلمس طرفِ إصبع صغيرته التي جاءت تزوره للمرّة الأولى في سجن عاليه. وقفَ الوالد مزهوّاً خلف الزجاج الفاصل بينهما يُحدّق في عينَي طفلته (5 سنوات)، يتلمّس من براءة نظراتها ما يَروي به ظمأ شوقِه إلى الحرّية. مرّةً يُقبّل الهاتف بين يديه ويقول لها إطبعيها على جبينك، ومراراً يلصق خدّه على الزجاج لتطبعَ هي له قبلتَها الدافئة. رغم أنّها ليست وحيدته، إنّما هي الصغرى في البيت، «هي نقطة ضعفي، وعندما تناديني بابا أملك الكون».منذ 26 شهراً يقبع إيلي (ف.) في إحدى زنزانتَي سجن عاليه بتهمة الإتجار بالمخدّرات، وهو أبٌ لعائلة مِن 4 أولاد، كان يَعمل في ميكانيك السيارات لإعالتهم، إلى أن بات «مسجوناً بدلَ أخيه»، على حدّ تعبيره.
ويَروي لـ«الجمهورية» ما حدثَ معه: «شقيقي يعيش في ماليزيا ويَعمل مع العصابات في التحشيش، التهريب، السرقة… ومطلوب من الإنتربول، أرسلَ لصديقه لوحةً مصنوعة من الكوكايين، فاتّصل بي هذا الصديق وطلبَ منّي أن أوصله بسيارتي ليتسلّم الصورة، ولم أكترِث للأمر، على اعتبار أن لا سيارة لديه، وفي طريقي إلى الأوزاعي أوصِله إلى البريد. وفي اليوم التالي عاد واتّصَل بي الصديق نفسُه متمنّياً عليّ أن أوصِله مجدّداً ليعيدَ الصورة، وهكذا حصَل.
وفي اليوم الثالث، عاد واتّصل بي لأوصله بعدما ورَده اتّصال مفادُه أنّ عليه الإمضاءَ على الصورة بأنّها ليست آثاراً من أيّ بلد أو مسروقة، لكنّني اعتذرتُ منه ولم أرافقه هذه المرّة، وللمفارقة أنّ القوى الأمنية كانت له في المرصاد، فوقعَ ومَن معه في الكمين، إلّا أنّ هذا الأخير تَعمَّد في التحقيقات إقحامي في القضية، على اعتبار أنّه لا يمكنه النَيل مِن أخي، فابتُليت».
حيالَ تجربته المريرة في السجن وشعوره بالغُبن، إعتقَد إيلي أن لا نكهة أمرَّ مِن خسارة المرء لحرّيته إلى أن تَبلّغَ خبرَ وفاة أبيه منذ أحدين، فيقول بحسرة: «تأخّرتُ لأعرفَ قيمة أبي».
ويتابع: «في الماضي كنتُ أنسى ربّما معايدته وأنهمك بوضعه الصحّي، نظراً إلى أنّه مبتور القدمين منذ العام 1982، وهناك رصاصة عالقة في رئته تُسبّب له المشاكل، فنَنهمك. لكن منذ لحظة خسارته وأنا أشعر وكأنّني خسرتُ سندي، وأشتاق لنصيحته، كلمةٌ منه تكفي».
ماذا عن معايدة أولادك لك؟ وهنا سرعان ما تغيب الغصّة وتحلّ البسمة، قائلاً: «منذ مدة جاءت زوجتي وأولادي «عِملولي مهرجان»، كان اللقاء جميلاً، ولكن حرقة قلبي أنّه لا يمكنني لمسُهم أو ضمُّهم أو شمُّ رائحتهم».
«بَعد كِل هالعمر»
أمّا قصة رامز (ح.ا) (63 سنة)، من بلدة شبعا ومختارها لنحو 12 عاماً، فقد تكون الأغرب بين تجاربِ المساجين الذين التقيناهم. يعجَز رامز عن الكلام وحتى عن استيعاب فكرة أنّه مسجون «بعد كِل هالعمر»، فهو متّهَم باختلاس أموال لشركة الكهرباء.
يتحدّث لـ«الجمهورية» والدموع تنهمر من عينيه الخضراوين لتستقرّ على شاربَيه من دون أن يشعر، فيَهمُّ أحد المساجين مقدّماً له المحرمة، يتنهّد المختار من أعماق نفسه ويقول: «تعود مذكّرة توقيفي إلى العام 2007، عِلماً أنّني خضتُ الانتخابات العام 2010 وسجلّي العدلي كان نظيفاً، لتهطلَ عليّ مذكّرة التوقيف العام 2016، فسلّمتُ نفسي وأنا على ثقة ببراءتي، لكنّني حُكِمت لاحقاً بالسجن سنة».
يَصمت رامز وعيناه ملتصقتان بالأرض كمن اكتوى بنار الذلّ، ويتابع: «عيد الأب لم يعُد يعني لي شيئاً، واللي بيعيش آدمي بتروح عليه»، هذا ما أيقنتُه».
لِمن تشتاق؟ لِمن يحنّ قلبك وأنت تعدّ الثواني لتخرج مِن هنا؟ أسئلة أشعلَت الحنين في قلب رامز وأيقظَت فيه تمسّكَه بالحياة، فعادت عيناه تلمعان مستذكِراً أولادَه: «عندي شابّان الحمدالله، أحدُهما متأهّل وله أولاد، وفي الحقيقة ما أعزّ مِن الولد إلّا ولد الولد». ويضيف: «كمساجين نأكل من الصَحن الواحد، ولكن مَن يعرف نفسَه أنّه بريء يمضي محكوميتَه بالعذاب والقهر النفسي».
عندها عرفتُ قيمتهم
بالنسبة إلى جورج (ز)، شغله الشاغل «إذا التَوم بلّشو يحكو»، فهو لم يَعتد بعد فكرة الأبوّة، وقد دخلَ السجن منذ 8 أشهر، قبل أن يتعلّم توأماه النطق. فكلّما سَنحت له الفرصة يهاتف زوجتَه ويسألها عنهما من رحيف قلبه، خصوصاً أنّه متزوج منذ 7 سنوات، وانتظرَ وزوجتَه نعمة الله بفارغ الصبر.
يَروي لـ«الجمهورية»: «لم أبكِ في حياتي يوماً إلّا بعدما دخلتُ السجن «بِبكي هون مِتل الولد»، وكلّ ما في الأمر أنّني وضعت 40 نرجيلة في قهوة يَملكها صاحبي، وعلى إثر مداهمة القهوة تبيّنَ أنّ فيها مخدّرات، وتمّ توقيف كلّ مَن له علاقة». ويتابع: «أوقفوني خطأً، ومِن سوء حظي أنّ زمرةً مِن الشباب علّمتني الكوكايين مدّةً قصيرة، لكنّني لا أتعاطى ولستُ مدمناً، في السجن تعلّمتُ قيمة العائلة ومعنى الأولاد».
بفارغ الصبر ينتظر جورج أن يحينَ موعده لاستخدام الهاتف لمعايدة والده، قائلاً: «علاقتي بعائلتي ممتازة ويساعدون زوجتي، سأتّصل بأبي وأتمنّى له طول العمر». ويضيف: «لكن من سوء حظي أنّ التوأمين لا يزالان صغيرَين ولا يدركان معنى العيد، وعلى رغم أنّني لن أسمعَ معايدتَهما إلّا أنّ تأمُّلَ صوَرهم يكفيني». وسرعان ما يَسحب من جيبه مغلّفاً فيه رزمة صوَر للتوأمين ووالدتهما.
خارج الزنزانة… سجن
غادرنا الزنزانة في عاليه تاركين المساجين لذكرياتهم الحلوة والمرّة التي أمضوها مع آبائهم والتي يحلمون بأن يمضوها مع أولادهم، لنجدَ أنفسَنا أمام سجن أكبر يقبَع فيه أهالي المساجين، وقلوبُهم تتلوّى حرقاً على أبنائهم.
العم أنطوان (70 عاماً) أحدُ الذين التقيناهم، يمسِك بيدِه اليمنى محرمةً وباليسرى كيساً عليه إسمُ صيدلية، كلّما مشى 4 خطوات يتوقّف يُجفّف دموعَه ثمّ يفتح الكيس يُحصي ما فيه، مُتمتِماً: «بلكي نسِيت شي دوا». أكثر مِن 4 مرّات تكرّر المشهد عينُه في مسافة لا تتجاوز مئة متر، وتحديداً من التقاطع المقابل لسراي عاليه، حيث أنزَله الباص، وصولاً إلى مدخلِها الخلفي المؤدّي إلى السجن الكائن في الطابق الأرضي.
وصَل العمّ أنطوان «ع آخِر نفَس»، ولم يكد يَفتح فمَه ليطلبَ رؤية آمِر السجن، نظراً إلى أنّ الزيارات ممنوعة اليوم، حتى خنَقت الغصّة صوته وهو يقول: «بَس يا ريت يوصَل الدوا لإبني جوّا».
لهذا العمّ إبنٌ متّهَم بسرقة خزنة إحدى المؤسسات بينما كان يتدرّب فيها نحو شهر ونصف الشهر، فهو شابّ عائد من الغربة بمبدأ «الواحد ما إلو إلّا وطنو». ولكنْ مِن سوء حظه أنّ المؤسسة تعرّضَت للسرقة، وأحدُهم ألبسَه التهمة.
فيقول الوالد: «ما إلي قلب إحكي مع إبني، بخاف إبكي قدّامو»، ويسأل بحرقة قلب: «عن أيّ عيد تتكلّمون إبني سجين وله ولدان، أحدهما رضيع لم يتعرّف إلى أبيه بعد، أين العدالة؟».
سجين، متّهَم، بريء، محكوم، قيد التوقيف… صفات قد تفرضها ظروف الحياة أو تنزعها رياح القضاء، ولكن تبقى صفة «الأب» بصمة راسخة بالدم، ميزتُها أن لكلّ منّا «أب» لن يُكرّره الزمن، وهو الحبّ الوحيد الذي لا نَندم عليه.