لا يحب البريطانيون جمعاً الاتحاد الأوروبي. الإنكليز لديهم موروث من التعالي القومي على أقرانهم في الاتحاد. الجنيه الإسترليني يشعرهم بالتفوق قروناً خلت. تمسكوا به وبقيت المملكة المتحدة خارج منطقة اليورو. يكرهون السوق الأوروبية المشتركة. لم يكونوا من بين الدول الست المؤسسة السوق عام 1957. يحبون منافعها التجارية فقط. لديهم مشكلة حين إقرار الموازنة الاتحادية كل سنة. في اختصار، كل معالم تأسيس اتحاد فيدرالي على غرار الولايات المتحدة الأميركية تشارك فيه المملكة المتحدة مجرد مشروع غير قابل للتحقق. لو صوت البريطانيون في الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، لبات السؤال مشروعاً عن وضعية سكوتلندا وإيرلندا الشمالية وويلز، الركائز الثلاث الأخرى الأصغر المكونة للمملكة المتحدة بالاضافة إلى إنكلترا. وعن مسار الاتحاد الأوروبي نفسه في المستقبل.
نميل إلى الاعتقاد بتحول الرأي العام البريطاني نحو البقاء في الاتحاد كما أظهرت استطلاعات الرأي بأرجحية طفيفة بعد اغتيال النائبة العمالية جون كوكس. الاتجاهات الشعبوية والقومية اليمينية يبدو أنها ستتراجع في مقابل مخاطر الخروج الإقتصادية التي حذر منها معظم الإقتصاديين البريطانيين وكل مؤسسات الإقتصاد والمال الدولية. رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الذي حصل على “ضمانات وطنية” على حساب الاتحادية بأن “الاتحاد الأوروبي متعدد العملات” وعلى تنازلات في الموازنة لمصلحة المزارع البريطاني، لا يملك وهو المؤيد بفتور لبقاء بلاده في الاتحاد، أجوبة شافية على تحديات جدية لا يبدو أن قادة أوروبا سيتعاملون معها بمرونة في حال خروج بريطانيا من الاتحاد. وأبرزها امتيازات التجارة الحرة وموقع لندن المالي. وتحصيل الحاصل تراجع النمو.
ستفقد بريطانيا موقعها في السوق الأوروبية المشتركة. ونحو 54 في المئة من صادراتها الى دول السوق محمية بامتيازات الدولة العضو. لن تكون مضطرة إلى إعادة التفاوض على اتفاقات التجارة الحرة مع كل دولة فرادى من دول الاتحاد الثماني والعشرين فحسب. بل ومع الدول الأخرى المرتبطة باتفاقات مع الاتحاد الأوروبي ضمن السوق. وتستفيد منها حالياً بالضرورة دول الاتحاد. ستخرج من الاتحاد الجمركي الأوروبي الهيكل الأساس لانسياب التجارة الحرة. ستعتمد تعريفات جمركية جديدة بالغة الحساسية. توفير أفضلية للمنتج البريطاني من دون الخروج عن قواعد منظمة التجارة العالمية. وسيتحلى الاتحاد الأوروبي بمقدار كبير من الروح السمحة لو وافق على اتفاق تجاري جمعي بين السوق المشتركة وبريطانيا بعد خروجها. فيقيها عناء المفوضات الثنائية التي قد تمتد سنوات. نشك في ذلك. لأنه أشبه بتقديم حوافز لدول أخرى كي تنسحب من الاتحاد.
إلى ذلك، فامتيازات السوق الأوروبية المشتركة دونها حريات أربع شرطية. انتقال السلع والخدمات والرساميل والأفراد. فالعداء للمهاجرين وتنقل الأفراد من أوروبا الشرقية هما اللذان أيقظا النزعة الانفصالية عن الاتحاد الأوروبي. الممثل التجاري الأميركي ميشال فورمان نبه حكومة كاميرون إلى أن الولايات المتحدة ستتعامل مع بريطانيا تجارياً لو خرجت من الاتحاد كما تتعامل مع الصين والبرازيل. صادرات بريطانيا إلى السوق الأميركية نحو 55 مليار دولار أميركي سنوياً.
ما ينطبق على تجارة السلع ينطبق على الخدمات التي تعوض جزءاً من عجز الحساب الجاري البريطاني. في مقدمها خدمات سوق لندن المالية الثانية عالمياً. ومن أجلها تعارض لندن الاتحاد المصرفي الأوروبي خشية انتقال المركز المالي الأوروبي إلى فرنكفورت وباريس. توفر هذه السوق خدمات مالية كبيرة، وحوافز للرساميل الأجنبية خصوصاً في القطاع العقاري وتوظيفات الصناديق الاستثمارية والسيادية. القطاعان معروضان منذ أكثر من شهرين تحسباً لنتائج الاستفتاء. الخسائر لحقت بالمستثمرين العقاريين وعدد كبير منهم من الدول العربية. وخرجت مليارات الاسترليني من صناديق التحوط منذ آذار/ مارس الماضي، تبعاً لتراجع الأصول المقومة بالاسترليني.
النزعات الانفصالية عن المملكة المتحدة موجودة أصلاً لدى سكوتلندا وإيرلندا الشمالية خلافاً لويلز. اسكوتلندا تعارض خروج المملكة من الاتحاد الأوروبي لأسباب إقتصادية. تشاطرها إيرلندا موقفها. لم يتسرب مهاجرون كثيرون إلى الدولتين. الموجودون حاجة لسوقي العمل فيهما. لو خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قد يعقبه استفتاء على بقاء سكوتلندا في المملكة المتحدة الذي يحكمها الحزب القومي اليميني الذي يرى مصلحة في الاستقلال. وإيرلندا تضيق ذرعاً بطغيان الإنجليز.
لمجرد أن يكتسب خروج دولة كالمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي هذه القوة، يعني أن الاتحاد يعاني قصوراً هيكيلياً لاستكمال مسيرته. أكانت نتيجة الاستفتاء خروجاً أم بقاءً. منطقة اليورو صلب الاتحاد من تسع عشرة دولة لم تخرج من أزمة الدين والركود. يستحيل على اليونان الخروج من أزمتها للبقاء في المنطقة. فرنسا تواجه مشكلة كبيرة. دول الجنوب أسبانيا والبرتغال. ويخفت الكلام عن إيطاليا ودينها قريب من مئة في المئة إلى الناتج. ألمانيا التي تحمل عبئاً كبيراً من المهاجرين مطالبة بدور لحفظ الاتحاد ووضع نمو شركائها وفرص العمل لديهم هدفاً أول، وعدم التركيز على جانب التقشف فحسب. وقد كان لها النصيب الأكبر من ثمار منطقة اليورو والاتحاد معاً. وكلاهما لن يستوعب بيسر موجة الوطنية الضاربة في عمق الأوروبيين على حساب الاتحادية في ظل ظروف اجتماعية ومعيشية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.