كتب نقولا نصيف في صحيفة “الأخبار”:
في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء رفض الرئيس تمام سلام اقتراحاً أجمع عليه الوزراء، هو إصدار بيان يدعو الوزيرين المستقلين الى العودة الى ممارسة صلاحياتهما. لم يرهما مستقيلين بل منقطعين عن الحضور لأنهما لم يتقدما باستقالة خطية. بيد أنهما في واد آخر
عندما يعتزم رئيس الجمهورية التنحي يوجه كتاباً الى رئيس مجلس النواب، الرقم 2 في الجمهورية ورئيس المؤسسة الدستورية الناخبة رئيس الدولة، لـ”أخذ العلم” بها فحسب وليس الموافقة عليها او اتخاذ موقف منها، على ان يدعو رئيس المجلس البرلمان الى انتخاب خلف للرئيس المعتزل.
ذلك ما فعله الرئيس بشارة الخوري عام 1952 والرئيس فؤاد شهاب عام 1960، وأوشك أن يفعله الرئيس الياس سركيس عام 1978، وناور من قبل الرئيس شارل حلو عام 1968 من غير ان يقدم.
عندما يعتزم رئيس الحكومة الاستقالة يوجه كتاباً الى رئيس الجمهورية، المرجعية الوحيدة التي توقع مرسوم تعيين رئيس الحكومة، لـ”أخذ العلم” بها فحسب ما لم يتراجع عنها. ما أن يدعوه الرئيس الى تصريف الاعمال مؤداه أنه وافق على استقالته وليس له من بعد ان يتراجع عنها في انتظار صدور مرسوم تسمية الرئيس الخلف. ذلك ما فعله الرؤساء المتعاقبون للحكومة الذين يتوجهون باستقالتهم الى رئيس الجمهورية فحسب. ثمة حالات استثنائية خرج رؤساء حكومات على التقاليد والقواعد الدستورية المتبعة. الرئيس سامي الصلح استقال في مجلس النواب عام 1952 قبل أن يقصد قصر القنطاري لتسليم الشيخ بشارة إستقالته، إلا أن الرئيس ــــ بسبب ما فعل وإمتعض من تصرّف جافى الأصول ــــ كان أعدّ له مرسوم إقالته كي يكون في إنتظاره. بدوره الرئيس رشيد كرامي، أول آباء السابقات، إستقال عام 1969 في مجلس النواب قبل أن يحمل كتاب الإستقالة اليوم التالي إلى الرئيس شارل حلو. إلا أنه عمد ــــ لأول مرة في تاريخ الحكومات ــــ إلى الإستقالة بأن توجّه بها “إلى الشعب” في 4 أيار 1987، قبل أقل من شهر على إغتياله، ولم يخاطب بها الرئيس أمين الجميّل، وكان يقاطعه آنذاك. كان كرامي أيضاً الأب الأول للمقاطعة.
أما الوزير، ثالثة زوايا هرم السلطة الإجرائية، فيتقدّم باستقالته من رئيس الجمهورية، أو من رئيس مجلس الوزراء، أو من رئيس الجمهورية بواسطة رئيس مجلس الوزراء، أو من الإثنين معاً. ليس له أن يحار أياً من المرجعيتين الدستوريتين اللتين وقعتا مرسوم تعيينه يخاطب. لكن بالتأكيد ليس له أن يستقيل أمام “الشعب” أو “الرأي العام”، بل إتباع الأصول الواجبة. عليه بالتأكيد، كرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، الإستقالة خطياً. بيد أنه يختلف عنهما في ما بعد إستقالته. عندما يعتزل الرئيس يتولى مجلس الوزراء صلاحياته إلى حين انتخاب خلف له. عندما يستقيل رئيس الحكومة يُكلف بناء على بيان من رئيس الجمهورية تصريف أعمالها إلى حين تأليف حكومة جديدة.
عندما يستقيل الوزير يتولى الوزير بالوكالة مهماته ومتابعة أعمال الحقيبة. ما أن يستقيل الثلاثة، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزير ــــ والتنحي خيار شخصي غير مقيّد ــــ يعودون للفور إلى بيوتهم ويكفون عن تحمّل أي تبعة أو مسؤولية، تاركين لماكنة المؤسسات الدستورية الإنتقال إلى المرحلة التالية لملء الوظيفة الشاغرة. لا رئيس للجمهورية لا يستغنى عنه، ولا كذلك رئيس الحكومة أو الوزير.
ما خلا إستثناءات، كان يجري ذلك في حقبة ما قبل إتفاق الطائف. لم يخرج في الحقبة السورية عن معظم التقاليد والقواعد تلك، رغم فروق جوهرية ما بين دستور جمهورية ما قبل عن دستور جمهورية ما بعد. كان الرئيس رفيق الحريري يعتذر عن عدم تأليف الحكومة تبعاً للأصول، والرئيسان سليم الحص وعمر كرامي يستقيلان عملاً بالأصول، ووزراء كجورج سعادة وجورج أفرام وبشارة مرهج يستقيلون بدورهم وفق الأصول، وهم يعرفون مَن يقتضي أن يخاطبوا. منذ عام 2005، ثم على وجه الخصوص ما بعد إتفاق الدوحة عام 2008، بات هرم السلطة الإجرائية يتقلّب على أكثر من جهة.
في حصيلة ما اختبرته حكومة الرئيس تمام سلام في سابقة إستقالة وزير إبتكار تقاليد غير مسبوقة في الحياة الدستورية اللبنانية ترتجف منها عظام أولئك الراقدين في قبورهم لما يفعله خلفاؤهم:
1 ــــ سيّان إستقال الوزير أو لم يستقل. الوزير أشرف ريفي إستقال خطياً تبعاً للأصول بإرسالها إلى رئيس الحكومة. عوض الذهاب الى طرابلس، عاد الى وزارة العدل يمارس وظيفته كوزير بصلاحيات كاملة ما خلا حضوره مجلس الوزراء. وزير على حقيبته، من دون أن يكون عضواً في مجلس الوزراء.
2 ــــ سيّان ممارسة الوزير صلاحياته أو اختراع ما يسمى تصريف الأعمال ونسبتها إليه كأنها قاعدة تصلح في كل مؤسسة وفي كل مكان وزمان. ليس لرئيس الجمهورية عندما يستقيل أو تنتهي ولايته تصريف الأعمال، بل تنتقل صلاحياته الدستورية كلها بلا أي انتقاص إلى مجلس الوزراء. ليس لمجلس النواب عندما تنتهي ولايته أو يُحلّ قبل نهايتها تصريف الأعمال، بل إعلان الشغور الكامل في السلطة الإجرائية ــــ ما لم يُنتخب برلمان خلف ــــ هو مبرر الدعوة إلى إنتخابات نيابية عامة في الشهرين اللذين يسبقان نهاية الولاية. ليس للوزير تصريف الأعمال بل إنتقال حقيبته للتوّ إلى الوزير بالوكالة. وحدها الحكومة المستقيلة تصرّف الأعمال ريثما تخلفها أخرى، إلا أنها في الحال هذه تكون إستقالتها قبلت نهائياً، وليس لها عندئذ أن تعود عنها.
3 ــــ سيّان بين وزير مستقيل يثابر على توقيع البريد والمعاملات على أنه وزير في الوظيفة، وينقطع في الوقت نفسه عن جلسات مجلس الوزراء ولا يشارك في قراراته، ولا يتحمّل المسؤولية السياسية الناجمة عنها. وهو العارف بالدور الذي أضحى عليه الوزير في إتفاق الطائف، منتقلاً من موظف في السلطة الإجرائية إلى شريك في الحكم باسم طائفته والقوة السياسية التي ينتمي إليها، ما يجعل دوره مزدوجاً: عضو في الحكومة يلاحق إدارات حقيبته وبريدها وشؤونها، وشريك أساسي في القرار السياسي لمجلس الوزراء، يصوّت أو يمتنع عن التصويت.