كتبت صحيفة “السفير تقول: قُضي الأمر… صناديقُ التصويت البريطانية قالت كلمتَها، فجر أمس. بعث البريطانيون بورقة الطلاق إلى الاتحاد الأوروبي، دونما اكتراث بتداعيات فشل زواج المصالح، الذي أدخل المملكة المتحدة في المنظومة الأوروبية على أثر عملية طويلة ومعقّدة، بدأت في العام 1961، حين تقدّم هارولد ماكميلان، رئيس الوزراء البريطاني المحافظ، بترشيح عضوية بلاده الى المجموعة الاقتصادية الاوروبية. هي مسيرة تخطّت عراقيل عدّة، أبرزها “فيتوات” شارل ديغول في الستينيات، واستفتاء الحفاظ على العضوية في العام 1975، لكنّها انتهت يوم امس باستفتاء “بريكسيت”، الذي حقق فيه معسكر “الخروج” انتصاراً مزلزلاً، بتأييد 51.9 في المئة من البريطانيين، وبنسبة مشاركة قياسية بلغت 72.2 في المئة.
ولا يمكن النظر إلى الطلاق البريطاني ـ الأوروبي، الذي يُتوقع أن تستغرق خطواته الإجرائية نحو عامين ـ أو ربما أكثر ـ باعتباره مجرّد نهاية لعلاقة ثنائية بين كيان سياسي بحجم قارة، وبين دولة عضو اختارت أن تعود جزيرة معزولة في المحيط الأطلسي، مدفوعة بمغامرة يمينية، على الطريقة “الترامبية”، التي لم يتوان صاحبها المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب، الذي حل ضيفاً على اسكتلندا بالأمس، عن استقبال نتائج الاستفتاء المصيري بمواقف إشادة، مبطّنة بالشماتة، تجاه الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
ومن نيويورك الى طوكيو، مروراً ببروكسل وباقي عواصم القرار الأوروبي، استفاق العالم، صباح أمس، على زلزال مدوّ، ربما ينتزع لقب “زلزال العصر”، الذي ضرب بقوّة قبل نحو ربع قرن، حين شهد العالم انهيار المنظومة الاشتراكية، على أثر تفكك الاتحاد السوفياتي السابق.
الارتدادات الأولى للزلزال البريطاني ظهرت سريعاً على مستوى الأسواق العالمية، التي فتحت على تراجع ملموس، لا سيما السوق البريطانية، التي شهدت هبوطاً في سعر صرف الجنيه الاسترليني الى مستويات لم يعرفها منذ العام 1985، وذلك على ايقاع صدور نتائج استفتاء “بريكسيت”، فيما اتجهت الأسهم نحو واحد من أكبر الانخفاضات في التاريخ، إذ فقدت الشركات الأوروبية مليارات الدولارات من قيمتها، وتكبّدت أسهم المصارف الكبرى في بريطانيا خسائر أفقدتها 130 مليار دولار.
وقد يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الى خسارتها تجارة السوق الموحدة، ما سيتطلب منها أن تبرم اتفاقات تجارية جديدة مع بلدان العالم.
وفي الجهة المقابلة، فإن الاتحاد الأوروبي سيتضرر اقتصادياً وسياسياً مع خروج بريطانيا، التي كانت تعد أقوى مناصر لاقتصاد السوق الحر، علاوة على تمتعها بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي وجيش قوي.
وتشير التقديرات الى أن الاتحاد الأوروبي سيخسر نحو سدس ناتجه الاقتصادي دفعة واحدة بعد خروج بريطانيا.
أما الارتدادات السياسية المرتقبة فتبدو أكثر خطورة، وعنوانها العريض “تفكك أوروبا”، القارة العجوز، التي اهتزت جدران قصور حكامها، منذ أن بدأ يظهر شعار “الخروج” بلونه الأحمر، على الشاشات التي كانت تنقل تباعاً نتائج الاستفتاء على العضوية الأوروبية، والتي تسمّر أمامها الملايين منذ اغلاق صناديق الاقتراع، وحتى ساعات الفجر الأولى.
وبات مؤكداً، وفقاً لسيل المواقف التي صدرت بالامس، أن ثمة قلقاً عالمياً إزاء “تأثير الدومينو” للاستفتاء البريطاني على باقي دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعدما سارعت العديد من أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية ـ وإلى حد ما اليسار الأوروبي السيادي ـ إلى المطالبة باستفتاءات مماثلة، في حملة منظمة، قادها سياسيون مغامرون، أمثال خيرت فيلدرز في هولندا، ومارين لوبن في فرنسا، وكريستيان ثولسن في الدنمارك، وجيمي اكيسون في السويد، و “حركة الخمسة نجوم” و “الرابطة الشمالية” في ايطاليا.
ولكن القلق لا يقتصر على أوروبا وحدها، بل يشمل بريطانيا، او “المملكة المتحدة” نفسها، بعدما أظهرت النتائج التفصيلية للاستفتاء، تبايناً حاداً على المستوى الجغرافي، بين اسكتلندا وايرلندا الشمالية، اللتين اختار سكانهما التصويت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي بواقع 62 في المئة و55.7 في المئة على التوالي، وبين بريطانيا وويلز اللتين اختار سكانهما الخروج من المنظومة الأوروبية بواقع 53.4 في المئة و52.5 في المئة، وهو أمر سيترك تداعياته على وحدة بريطانيا، والمستقبل السياسي لأحزابها التقليدية، ولا سيما حزب المحافظين، بعدما أعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، وهو يحاول مغالبة دموعه، عن عزمه مغادرة “10 داوننغ ستريت” في تشرين الأول المقبل، وبعد انطلاق حركة تمرّد داخل حزب العمال، حيث دشن عدد من نوابه تصويتا بنزع الثقة عن الزعيم اليساري جيرمي كوربين الذي يتهمه معارضوه بقيادة حملة فاترة للبقاء في الاتحاد الأوروبي.
ومن أول المؤشرات على أن وحدة بريطانيا قد باتت على المحك، استقبال رئيسة وزراء اسكتلندا نيكولا ستارجون نتائج استفتاء “بريكسيت” بتصريح مثير للجدل، ألمحت فيه إلى أن إجراء استفتاء جديد على الاستقلال عن باقي بريطانيا أمر مرجح جداً، مشددة على انه من “غير المقبول ديموقراطياً” أن تخرج اسكتلندا من الاتحاد الأوروبي ضد رغبتها، فيما دعا حزب “شين فين”، الواجهة السياسية لـ “الجيش الجمهوري الإيرلندي”، إلى استفتاء على توحيد ايرلندا. وامّا اسبانيا فاعتبرت أن الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي يتيح لها استعادة جبل طارق الذي صوّت سكانه بغالبية 90 في المئة لصالح البقاء في الاتحاد الاوروبي. لا بل أن ثمة من خرج في لندن نفسها، للإعلان عن عريضة جمعت حتى الآن 40 ألف توقيع، للمطالبة بالانفصال عن بريطانيا والالتحاق بأوروبا، مع الإشارة إلى أن العاصمة البريطانية صوتت بنسبة 60 في المئة لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ومن غير الواضح بعد، كيف ستتعامل الفئات الرافضة للخروج من الاتحاد الأوروبي مع الواقع الجديد، لكن ثمة ظواهر مثيرة للقلق في هذا الإطار، كان أشدّها قبل أيام جريمة اغتيال النائبة في مجلس العموم جو كوكس، المؤيدة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وتنامي النزعة اليمينية القومية، في ظل الحضور القوي لـ “حزب الاستقلال” نايجل فراج، فضلاً عن التمزّق الديموغرافي والطبقي، الذي اتخذ شكل صراع بين جيلين تبدّى بوضوح في الاستفتاء الأخير، حيث أيد الناخبون الأكبر سنّاً الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما كان مؤيدو البقاء فيه من الشبان في الأساس، وصراع بين الريف والمدينة من ابرز مؤشراته نتائج التصويت في ويلز حيث دعمت غالبية من 52.5 في المئة الخروج من الاتحاد الاوروبي، لكن عاصمتها كارديف صوتت لصالح البقاء مع 60 في المئة من الاصوات، بالإضافة إلى صراع على المستوى الطبقي بين الفئات الليبرالية والفئات العمالية.
إزاء كل هذه المؤشرات، يمكن فهم لماذا دقّت نواقيس الخطر في بروكسل وباقي عواصم الاتحاد الأوروبي، للبحث في كيفية التعامل مع “الصدمة المدوّية”، على حد وصف رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، ولمناقشة الترتيبات الإجرائية لتلك “النقطة الفاصلة للوحدة الأوروبية”.
وبطبيعة الحال، ستفتح نتيجة التصويت الباب أمام إجراءات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وهي ستستغرق عامين على الأقل، في خطوة لم يسبق لعضو آخر أن اتخذها.
ويريد البعض في الاتحاد الأوروبي البدء بسرعة أكبر في إجراءات الانفصال، حتى بمجرد أن يطلع كاميرون القادة الأوروبيون، على التطورات خلال قمة تعقد يوم الثلاثاء المقبل، بينما تشعر الدوائر الأوروبية بالقلق إزاء تصريحات المدافعين عن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومفادها انهم ربما يفضلون بدء محادثات قبل اللجوء الى المادة 50 من اتفاقية لشبونة، ما يعني إطالة أمد إجراءات الخروج لأكثر من عامين.
وتنص المادة 50 من اتفاقية لشبونة على مبادئ عامة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهي تفرض على الدولة العضو إخطار المجلس الأوروبي بنيّتها الانسحاب، وتوجب على الاتحاد الأوروبي أن يتفاوض مع تلك الدولة، وأن يتوصل إلى اتفاق يحدد الترتيبات لانسحابها، مع الوضع في الاعتبار إطار العمل لعلاقتها المستقبلية بالمنظومة الأوروبية. ولا تسري المعاهدات على الدولة المعنية اعتبارا من تاريخ دخول الاتفاق حيز التنفيذ، أو في حالة عدم الالتزام بعد عامين من الإخطار، إلا إذا قرر المجلس الأوروبي بالإجماع، وبالاتفاق مع الدولة العضو المعنية، مدّ هذه الفترة.
وتنقل وكالة “رويترز” عن مسؤول أوروبي وصفه المادة 50 بإجراءات الطلاق بين زوجين: من سيحصل على المنزل؟ ومن ستكون له حضانة الأطفال؟ ومن يحصل على حسابات المصارف، في إشارة إلى أولويات مثل تحديد ميزانية الاتحاد الأوروبي، ووضع البريطانيين الذين يعيشون في دول أوروبية أخرى ومصير المواطنين الأوروبيين المقيمين في بريطانيا. ويرى المسؤول الأوروبي أن عدم الالتزام بالمادة 50 سيؤدي إلى “طلاق فوضوي” بحيث يصبح الأمر “مثل زوجين يرشقان أحدهما الآخر بالأطباق بدلا من الاتفاق من خلال محامين”.
ودعت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل الى قمة مصغّرة في برلين مع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند ورئيس الحكومة الايطالية ماتيو رينزي، الى جانب رئيس الاتحاد الأوروبي دونالد توسك “لتحليل الوضع بهدوء وضبط نفس”.
وقبل ذلك بيومين، سيلتقي في العاصمة الالمانية وزراء خارجية الدول الست المؤسسة للاتحاد الاوروبي (المانيا وفرنسا وايطاليا وهولندا وبلجيكا واللوكسمبورغ) لبحث الملف، فيما تقرر عقد قمة للقادة الاوروبيين يومي 28 و29 حزيران، وهي ستركز بالتاكيد على نتائج الاستفتاء البريطاني.