كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري جنّ جنون المال: 500 مليون دولار تقول الولايات المتحدة إنها صرفتها في لبنان، وأضعافها من السعودية، سيّلت لعاب إعلاميين كثر، ومكّنت إمبراطورية المستقبل من التوسع على نحو خيالي.
والهدف كما قيل يومها بشكل علني (شهادة السفير الأميركي الأسبق جيفري فيلتمان) تشويه صورة «حزب الله»، ودعم حلفاء الولايات المتحدة في لبنان.
يومها، ولدت القناة الحمراء لتلفزيون «المستقبل»، ببناء هو الأحدث في عالم التلفزيونات العربية، وبعدة شغل كانت الأحدث أيضاً يومها، وببرنامج عمل وفريق استثنائي بتنوعه وديناميكيته. بالتزامن، انطلق موقع «ناو ليبانون» الإلكتروني بقيادة النائب عقاب صقر الذي لم يترك قلماً أو وجهاً تلفزيونياً يمكن استقطابه مالياً، أياً كان المبلغ، إلا استرضاه وطوّعه. وبموازاة تركيز «المستقبل» الحمراء و»ناو ليبانون» على «إعادة تدوير» الصحافيين والإعلاميين من مختلف الانتماءات، ركز ملحق «النهار» على استيعاب العدد الأكبر من الكتّاب، وممن كانوا يوصفون بالمثقفين الليبراليين اللبنانيين والعرب المأخوذين بـ»ثورة الأرز». وفي مطلع 2006، بدا أن أذرع الأخطبوط الإعلاميّ تغلغلت في كل الوسائل الإعلامية من دون استثناء، وبات رؤساء تحرير النشرات الإخبارية المختلفة في التلفزيونات والإذاعات ورؤساء الأقسام في الصحف يتسابقون مع صحافييهم على كتابة مقالين أسبوعياً للمواقع الإلكترونية المغمورة التي رفعت سعر المقال من ستين دولاراً إلى نحو 400 دولار أميركي، قبل أن يفتح كل إعلاميّ مستقبليّ موثوق موقعاً إلكترونياً على حساب «الشيخ سعد»، أو مركز تدريب للسياسيين على الإطلالات التلفزيونية، أو شركة علاقات عامة. وكانت الامبراطورية الإعلامية المستقبلية محصَّنة أو محاطة بوسائل إعلامية مكتوبة ومرئية ومسموعة، سعودية وكويتية وقطرية وألمانية وفرنسية وأميركية: من تسريبات المطبخ المستقبلي المختلفة لصحيفة «السياسة الكويتية»، إلى انبهار الـ CNN بـ»ثوار الأرز».
لكن ما كادت الأزمة المالية الحريرية تطل برأسها حتى ابتدأ الانهيار: البعض نقل البندقية، من دون حياء، من كتف «المستقبل» إلى كتف حزب الله الذي استفاد، بصورة غير مباشرة، من خروج اللواء جميل السيد من الاعتقال. فالأخير أعاد الإمساك بعدة خيوط إعلامية، وقاد حملة هي الأقسى في مواجهة 14 آذار منذ اغتيال الحريري الأب. ثم ظهرت إلى العلن ميزانيات من قِبَل قوى 8 آذار رُصدت لمنابر إعلامية صغيرة.
بعضٌ آخر من إعلاميي «ثورة الأرز» أعاد المجتمع المدني تصنيعه. وبعض ثالث يتسكع منذ عامين في شوارع باريس كـ»هوملس» ولا يجد ما يأكله بعدما أنزل نفسه في بئر المحكمة الدولية وقطع تيار «المستقبل» الحبل به. فالمؤسسات الإعلامية المملوكة من سعد الحريري أو من ينوب عنه في السجل التجاري (تلفزيون المستقبل، إذاعة الشرق، صحيفة المستقبل، موقع تيار المستقبل الإلكتروني، صحيفة «النهار» وصحيفة «دايلي ستار») لا تزال تعمل، لكن أزمة الرواتب دفعت غالبية الموظفين الكفوئين إلى المغادرة، وأمكنهم إيجاد عمل في وسائل إعلامية أخرى، ولم يبق في مؤسسات «المستقبل» سوى من يعجزون عن إيجاد عمل في مكان آخر، وقلة قليلة تختار بكامل إرادتها البقاء في المركب الحريريّ الغارق مثل بولا يعقوبيان وزافين وشهيدَي الحريرية الحيين علي ومروان حمادة وعدة أقلام في «النهار» يصلّون الشهر بطوله أن تبقى رعاية الشيخ سعد عسى يأتي الراتب.
وفي موازاة انتكاس الوسائل الإعلامية الحزبية تشتتت كتلة الحريري الإعلامية: اغتيل سمير قصير مع ما يمثله من مشروع إعلامي. اغتيل رئيس تحرير النهار النائب جبران تويني.
توفي كل من بيار صادق ونصير الأسعد. اختار النائب نهاد المشنوق التفرج من بعيد على الإمبراطورية الإعلامية التي أسسها، تتهاوى فوق رؤوس مستشاري الحريري الإعلاميين يتقدمهم هاني حمود. خرج دينامو الماكينة الإعلامية النائب عقاب صقر من اللعبة ولم يعد. نديم قطيش سافر هو الآخر إلى دبي. فارس خشان نشر في كتابه الأخير «مومس بالمذكر» أكثر بكثير من مجرد سيرة ذاتية بعدما أقفل موقعه الإخباريّ ليتفرغ في منفاه الباريسي لكتابة الروايات الخيالية التي تلقى رواجاً كبيراً في أروقة المحكمة الدولية. وبدوره تحول نوفل ضو إلى معلق فايسبوكيّ على مواقف التيار الوطني الحر حصراً، ويملأ وقت الفراغ السياسيّ بإدارة مزارع بزاق. وعلى خطاهم سار أسعد بشارة مبتعداً باتجاه الوزير أشرف ريفي. أما نديم الملا، فأخرج من الفريق الضيق المحيط بالرئيس سعد الحريري إلى المجهول. وذهب طانيوس دعيبس طواعية إلى المنزل. وانكفأت مي شدياق. وآثر سوبرانو «المستقبل» إيلي محفوض الالتفات أخيراً إلى مكتب محاماته. حتى «ابن البلد» صاحب «الياطفات» الطرابلسية الشهيرة، سُحِب من السوق.
وفي السياق نفسه، كان تلفزيون «المر» وعدة إذاعات، وصحيفة «اللواء» ودار «الصياد» وصحيفة «الأنوار» وعدة مراكز دراسات وإحصاءات، كان هؤلاء، يدركون أن الأميركيين والسعوديين فتحوا صفحة جديدة لا طفرة مالية فيها، فقرروا استعادة رشدهم، وتخلوا عن شعار «مع المستقبل ظالماً كان أو مظلوماً». وفي وقت تعمد فيه قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر إلى تجديد وجوهها الإعلامية، ولو بما هو أسوأ أحياناً، استهلك تيار «المستقبل» منظريه من النائب السابق سمير فرنجية إلى فارس سعيد والياس عطالله الذين فقدوا سحرهم.
وبعد تضعضع الدائرة الحزبية والدائرة شبه الحزبية تضعضع صف الدفاع الأول عن «المستقبل» المتمثل بالمواقع الإلكترونية ومستكتبيها خصوصاً، كما أقفِل ملحق «النهار» وأحيل كتّابه على التقاعد، وجرى التخلي عن أقنعة اليسار الديموقراطي المختلفة. بينما كان يجري إغلاق المواقع الإلكرتونية تباعاً، كان موقع «ناو ليبانون» يتولى احتضان المستكتبين، لكن بعدد أقل هذه المرة، مبقياً على قلة تتقاطع مع تيار «المستقبل» في مواقف قليلة ويختلفون معه في مواقف كثيرة. أما الجزء الأكبر من «مستكتبي» ناو ليبانون، فتشردوا أشهراً في شوارع بيروت لا يعرفون كيف يعيدون تنظيم حياتهم من دون الأجر الخياليّ لمقالاتهم. وقرر «الرفيق» إيلي خوري أخيراً إقفال موقع «ناو» نهائياً.
أمام العجز هذا، تولت جهة ما نصح منظمات المجتمع المدني باستقطاب «المشردين»، وتوظيفهم كمسؤولين إعلاميين للجمعيات أو مستشارين، فيما استغل آخرون منهم أول فرصة خليجية سنحت لهم. وانضم جزء كبير من كتاب المواقع والمؤسسات الحريرية إلى وسائل الإعلام القطرية التي تتقاطع مع الحريري أيضاً في بعض المواقف، لكنها لا تروّج له. فقد انتقلت الكرة التي يركض بعض الإعلاميين خلفها من الملعب الحريري إلى الملعبين القطري والسعودي اللذين يعاديان حزب الله طبعاً، لكنهما لا يؤيدان الحريري ولا يروجان له، ولا ينتظران بطبيعة الحال تعليمات هاني حمود أو تسريباته. فمثلا، يمكن متابعة حازم صاغية وحازم الأمين في «الحياة» والياس خوري في «القدس العربي» وديانا مقلد في «الشرق الأوسط»، حيث يظهر بوضوح عداء هؤلاء لـ»حزب الله»، لكنهم لا يدافعون بأي شكل من الأشكال عن الحريري.
اختصاراً، يمكن القول إن تيار «المستقبل» انتقل من مرحلة كان فيها الوزير نهاد المشنوق الصحافي المميز بمعلوماته المتشعبة وقلمه الأنيق إلى مرحلة بات فيها عوني الكعكي هو الوجه الإعلامي الحريري. كان هناك النائب عقاب صقر بدهائه وسرعة بديهته وشطارته في التغلغل وسط صحافيّي الخصوم، فصار لدينا اليوم رشا الخطيب التي تصف من يختلف معها في الرأي أو يجرؤ على انتقادها أو مساءلتها بأنهم «بهائم» تحتاج إلى «إعادة تربية من أول وجديد».
انهارت إمبراطورية كبيرة تلاعبت بعقول كثيرين ونجحت في اختراق دفاعات الخصوم، ولم يبق للحريري سوى حساب على موقع تويتر يطلق عليه تغريداته. والبساط الذي تضافرت جهود كثيرين لنسجه سابقاً لا يمكن لملمة خيطانه إذا عادت الأموال إلى مجاريها.