كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
لأسوأ في تفجيرات القاع هو أنّها تستثمر المسيحيّين و»خوفهم التاريخي» على المصير، خصوصاً عندما تعبث بالوجدان الجماعي لأبناء القاع. فقد ضُبطت على اللحظة إيّاها لذكرى مجزرة 28 حزيران 1978. ولكن، هل يُدرك الجميع أنّ كل الأشياء في لعبة السياسة والاستخبارات، بما فيها المقدّسات، وكل الناس، يمكن أن يُصبحوا مواد للاستثمار، مسيحيّين كانوا أو شيعة أو سُنّة أو سوى ذلك؟اللعب على أوتار المجزرة التي وقعت في ذروة الحرب الأهلية وتفكُّك الدولة، قبل 38 عاماً، قد يكون الرسالة الأبرز في عمليات التفجير في القاع. فاستثارة ذوي شهداء تلك المجزرة بمجزرة جديدة من شأنها، سيكولوجياً، أن تدفعهم إلى الارتماء في أحضان العام 1978، أي: الدولة غائبة، وسلاحٌ في اليد أفضل من 10 على الشجرة!
الساعات الأولى من انفجارات فجر الإثنين بَدا فيها أبناء القاع أكثر انحيازاً إلى منطق الأمن الذاتي. وبعد زيارة قائد الجيش العماد جان قهوجي وتأكيده حضور الجيش، بدأ الجميع يجري الحسابات ببرودة أكبر: السلاح في المنزل، والكلمة للجيش.
لكن، في مقابل الرمزية الكبيرة التي ارتداها حضور قهوجي، والدعم الشعبي للجيش من داخل البلدة، كان لافتاً الاتجاه الذي أظهره النائب مروان فارس باستعراض السلاح والتلويح بالاستعانة بمقاتلين من الهرمل. وثمّة من يخشى أن تؤدي الظروف إلى تطوّر هذا الاختلاف بين «القوات اللبنانية» التي حازت البلدية قبل أسابيع، والقوى الأخرى القريبة من «حزب الله».
إذاً، هناك تسابق خفيّ: لمَن ستكون الإمرة أو السيطرة العسكرية في القاع والقرى المسيحية المجاورة؟ وفي تقدير المتابعين أنّ ما يجري هنا هو النسخة اللبنانية من المواجهة الدائرة حالياً مع «داعش» في سوريا (أرياف دمشق وحلب وامتداداتها شرقاً إلى الرقّة) وفي العراق (الموصل بعد الفلوجة).
ففي سوريا والعراق، انتهت الحرب الكبرى وبدأت الحروب الصغيرة، حيث يحاول الجميع تحسين مواقعهم ليكرّسوا حضورهم على طاولة التفاوض. وهكذا انقَضت المرحلة الأولى من الحرب الأهلية، أي تلك التي كان يطمح فيها كل طرف إلى القضاء على الآخر والسيطرة الكاملة.
ولأنّ «داعش» لا تصلح لتكون طرفاً مفاوضاً على الطاولة، فإنها تتعرّض لعملية إضعاف مبرمجة. وفيما يشتدّ الضغط عليها في سوريا والعراق، تعمل لاستخدام أوراق أخرى في الأردن (استهداف الجيش الأردني على الحدود السورية) ولبنان حيث تحاول «داعش» وسائر القوى المعنية بالصراع أن تفرض حضورها.
والخريطة العسكرية للمناطق الجردية الفاصلة بين لبنان وسوريا تتوزّع اليوم بين ثلاث قوى:
– «حزب الله» يسيطر على المناطق الشيعية المحاذية للمناطق السورية الواقعة تحت سيطرة الجيش النظامي.
– الجيش اللبناني يسيطر على مناطق معروفة في عرسال ومداخلها، ويضبط أمن البلدات المسيحية المفتوحة على سوريا (القاع – رأس بعلبك)، وهو يستعين بأبراج مراقبة حصل عليها من بريطانيا وأسلحة متطورة زوّدته إيّاها الولايات المتحدة، من شأنها منع «داعش» والتنظيمات الأخرى من التقدّم.
– «داعش» و«النصرة» تتنازعان السيطرة على جرود عرسال امتداداً إلى داخل القلمون السوري. وفي العام الفائت، حاولت «داعش» الإفادة من ضعف «جبهة النصرة» في عرسال للتمدد هناك وتعويض خسائرها في الداخل السوري.
والسؤال المطروح هو: هل تريد «داعش» ترويع القاع وتهجير أهلها، في محاولة للاستيلاء عليها والتمدُّد إلى الداخل، تنفيذاً للمخطط؟
المتابعون يستبعدون ذلك، لأنّ «داعش» تُدرك استحالة أن يسمح المجتمع الدولي بسقوط بلدات لبنانية في أيدي «داعش» أو توسُّع هذا التنظيم نحو الداخل اللبناني. والدليل هو حجم الدعم الذي يقدّمه الأميركيون وآخرون للجيش بالمراقبة والسلاح والمعلومات.
ومن المؤكد أنّ أيّ تهديد بدخول «داعش» قد تتعرّض له المنطقة سيواجهه التحالف الدولي فوراً، ولو اقتضى ذلك استخدام سلاح الجو الحليف في البقعة اللبنانية.
إذاً، أيّ القوى الإقليمية التي تمون على «داعش» أو تُحرِّكها أو تموّلها ترغب في تحقيق أهداف أخرى؟ ومنها مثلاً «عسكرة» تلك المنطقة المسيحية الحدودية لتجييشها في خدمة عملية التقاسم الكبرى الجارية، علماً أنّ لبنان مقبل أيضاً على عمليات تفاوض سياسية داخلية، كما سوريا والعراق وسواهما؟
إنّ أبرز درس تُقدّمه عملية القاع هو الآتي: «داعش» هي تركيبة استخبارية لا أحد يعرف كيف تتخذ قراراتها، وهي مجرّد ورقة تستثمرها القوى المختلفة، كلٌّ في التوقيت المناسب وفي السياق الذي يخدمه سياسياً.
لكنّ المؤكّد أنّ «داعش» التي تضرب في شكل غامض في القاع، لم تستهدف حتى اليوم سوى مسلمين، وسوى مسيحيين في الدول العربية وأوروبا الأكثر تعاطفاً مع العرب وقضاياهم. وأمّا الآخرون فيتمتعون بـ»الأمن الداعشي». لماذا؟