كتبت سعدى علّوه في صحيفة “السفير”:
تضافرت عوامل عدة على خلفية ضرب الإرهاب بلدة القاع في البقاع الشمالي امس الأول، واستهدافها بثمانية انتحاريين وضعوها في حرب مفتوحة على مدى 24 ساعة، لوضع منطقة “مشاريع القاع” والأراضي الزراعية التابعة للبلدة، كمصدر محتمل لتسلل الإرهابيين.
وساهمت الطبيعة الجغرافية للقاع، حارسة الحدود الشمالية اللبنانية مع سوريا، ووجود ما بين 25 إلى 30 الف لاجئ سوري في مشاريعها، وانتشار نحو عشرين تجمعاً للنازحين على شكل مخيمات صغيرة لا يبعد بعضها إلا مئات الأمتار عن منازل القاعيين، في ترجيح احتمال مشابه في أذهان الناس.
وإذا كان لا يمكن الطلب من “القاعيين” الآن تحديداً، وهم لم يواروا شهداءهم الخمسة في الثرى بعد، كما لم يطمئنوا إلى نجاة كل جرحاهم الـ23 الذين يقبع بعضهم في المستشفيات بحال خطرة، أن يعالجوا ملف الوجود السوري في ديارهم بطريقة هادئة، إلا أن الدولة مطالبة بذلك بقوة.
وحدها الدولة وأجهزتها ومؤسساتها مطالبة بحماية القاع وأهلها وطمأنتهم من جهة، وخصوصاً حمايتهم، والحؤول دون أخذ السوريين جميعاً بجريرة الإرهابيين. وهي بذلك لا تحمي السوريين الأبرياء فقط بل تحافظ على مصالح أهل القاع والمستثمرين في مشاريعها، حيث تقوم مواسمها على سواعد نحو ثمانية آلاف عامل سوري في حقولها وبساتينها.
ويأتي تصريح رئيس بلدية القاع بشير مطر للإعلام أمس، وفيه أنه “لن يُسمح ببقاء أي سوري في البلدة”، في الاطار نفسه، خصوصاً مع إشارته إلى وجوب تنظيم وجود العمال السوريين في مشاريع القاع.
من يعرف جغرافيا القاع وخريطة التواجد السوري فيها، يدرك ان عدد اللاجئين في القاع البلدة لا يتخطى الثلاثمائة شخص، فيما تتركز كثافتهم في منطقة “مشاريع القاع” (25 إلى 30 الف نسمة، بينهم 9800 مسجل مع مفوضية اللاجئين).
“السفير” قصدت مشاريع القاع أمس بعدما توجهت إليها مع ساعات الصباح الأولى قوة من اللواء الثامن في البقاع الشمالي وأخرى من فوج المجوقل، من ضمن سعي الجيش اللبناني إلى الإمساك بضبط المنطقة في البقاع الشمالي عامة وفي قلبها القاع، على خلفية استهدافها من الإرهاب.
تترك مركز الأمن العام اللبناني في القاع عند بدء العد العكسي نحو الأمانة السورية، نقطة العبور الرسمية في جوسيه إلى الداخل السوري، لتبدأ بعد نحو خمسمئة متر تجمعات لخيم يقطنها سوريون على جانبي الطريق الدولية. هنا تبدأ المعالم الأولى لمشاريع القاع التي تمتد على نحو 181 الف دونم من أكثر مناطق لبنان خصوبة. تقترب التجمعات من الطريق بمسافة لا تقل عن عشرة أمتار فيما تم نقل معظم المخيمات إلى مسافات لا تقل عن مئتي متر، خصوصاً التي تضم من 15 إلى عشرين خيمة وما فوق.
تنعكس فاجعة القاع على المشاريع. المحال الكثيرة المتراصفة على جانبي الطريق الدولية والتي عرفت قبل الأحداث في سوريا مجداً مشابهاً للمناطق الحدودية التي تتغذى على التهريب والتجارة الحدودية، أقفلت ابوابها تماماً.
الطريق شبه خالٍ إلا من عابر نادر اضطر للخروج من خيمته أو منزله. بدا واضحاً أن الرعب من مزيد من الانتحاريين والتفجيرات الذي يعيشه أهالي القاع ينسحب على المقيمين في المشاريع، الذين فضل السواد الأعظم من بينهم عدم الخروج في ظل منع التجول الذي قيل انه فرض على السوريين في المنطقة.
الحقد على الإرهابيين تجده على لسان كل سوري يعمل بكد ليحصل لقمة عيشه في المشاريع بعيداً عن اي مشاكل: “نحن نضمن أنفسنا ولكن لا يمكننا ضمان غيرنا”، يقول فؤاد، العامل السوري الذي يعيش في مشاريع القاع منذ عشر سنوات. كان فؤاد يقل سوريا آخر يعمل في المشروع نفسه ليأتي بالخبز لأطفاله. يتفهم فؤاد رد فعل أهالي القاع “ولكن كل ما نطلبه أن لا يأخذوا الأبرياء بجريرة المذنبين، فنحن الذين نعيش هنا لنعمل ونعيل عائلاتنا لا حول لنا ولا قوة”.
السوريون والمشاريع
ليس الوجود السوري في “مشاريع القاع” ابن الأزمة السورية. شكل العمال السوريين اساس العمالة في الزراعة منذ اكتشاف خصوبة أراضي المشاريع في ستينيات القرن الماضي. لكن، ومع الأزمة السورية، وتحديداً خلال معارك القصير وريفها، شهدت مشاريع القاع نزوحاً كثيفا ارتبط جذرياً بالنزوح نحو عرسال التي يسكن نحو 2500 عرسالي من أهلها في المشاريع ويستثمرون مزارع فيها.
يومها، لا يخفى على أحد ان غالبية النزوح إلى المشاريع كانت شبيهة بالنزوح العرسالي: مُعارِض للنظام السوري. وكانت هناك شهادات موثقة لمسلحين ينشطون ليلاً ويمارسون حياتهم نهاراً كلاجئين. وبالتالي، فإن “بذرة” تواجد المسلحين في المشاريع يومها وجدت بيئة تحضنها لتنمو وتسم المنطقة بها.استفاد المسلحون الهاربون إلى المشاريع من طبيعتها الجغرافية والتصاقها بالحدود مع جوسيه حيث لم يكن يفصلها عنها في بعض النقاط إلا سواتر ترابية من السهل عبورها، بالإضافة إلى المعابر الجبلية الوعرة عبر سلسلة جبال لبنان الشرقية. كانت المشاريع أيضاً خاصرة عرسالية متأثرة باحتضان جزء من عرسال، وتحديداً الذين تاجروا بالثورة السورية.
مع سقوط القصير وريفها وانقطاع التواصل غير الشرعي بين المشاريع وعرسال من جهة، وبينها وبين سوريا من جهة ثانية، انقطع النشاط العلني للمسلحين من دون أن يعرف أحد إذا كانوا قد انسحبوا نحو الجرود والتحقوا بـ “النصرة” و”داعش” أم بقوا في المشاريع كلاجئين.
يعطي أسعد التوم، أحد ابناء القاع، ومالك أحد أكبر المشاريع في منطقتها، طريقة تنظيمه، وبعض أصحاب المشاريع الآخرين، لتواجد العمال في مزارعهم كنموذج لضبط الوضع في المشاريع. يقول التوم أن مشروعه الذي يمتد على 450 دونماً يستوعب 28 عاملاً مع عائلاتهم. ينجز التوم كل عام تعهداً سنوياً لدى الكاتب بالعدل لكل عامل ويدفع رسوماً تصل إلى 300 الف ليرة لبنانية عن كل منهم. هؤلاء معروفون لدى الأجهزة الأمنية ولديهم بطاقات إقامة شرعية، ولا يسمحون لأي غريب بالبقاء عندهم. يقول التوم أن اي عامل يتمتع بكفالة من صاحب مزرعة هو شرعي وموثوق به “ونحن نبلغ عنه في حال تركه العمل فوراً ويصبح عليه لزاماً المغادرة إلى سوريا»، طبعا في حال عدم تعاقده مع كفيل آخر. وهنا يشدد التوم على عدم ضرورة التعامل مع السوريين كسلة واحدة، وضرورة تنظيم تواجد العمال والذين يتمتعون باقامات شرعية في لبنان «لأن المشاريع بحاجة إليهم ايضاً، كما أنه من الناحية الإنسانية والأخلاقية يجب عدم ظلمهم”.
لكن الكارثة تكمن في أن عشرة في المئة كحد أقصى من مجمل نحو ستة آلاف إلى ثمانية آلاف عامل يعملون في مشاريع القاع يتمتعون بالتعهد عند الكاتب بالعدل، وبالتالي موثّقون ومعروفون ويسكنون داخل حرم المشاريع التي يعملون بها.
أما بقية العمال فيسكن بعضهم في مشاريع لم ينجز أصحابها معاملاتهم القانونية، أو في الخيم الـ20 المزروعة في طول المشاريع وعرضها، وهؤلاء من الصعب مراقبتهم برغم العين الساهرة للأمن، من دون أن يعني ذلك تصنيفهم جميعا في خانة المتهمين، ولكن من دون ان يضمن أحد أن يكون بعضهم ما زال على علاقة بالمسلحين والتنظيمات الإرهابية، وهو ما قاله فؤاد، أحد العمال النظاميين أيضاً.
الشاويش التاجر
وللعمال الزراعيين الذين لا ينضون تحت تعهدات من اصحاب المزارع معاناة أخرى مع الشاويش. والشاويش هو الذي يؤمن عمالاً مياومين للمزارع. من مصلحة الشاويش، أو وكيل العمال، أن يبقى هؤلاء من دون بطاقات رسمية، إذ إنه يتقاضى من كل عامل وعاملة مبلغ الفي ليرة عن كل نهار عمل يؤمنه لهم. كما يقبض منه بدل نقل، ويمنح العامل الرجل عشرة آلاف والمرأة ثمانية آلاف في اليوم. هناك وكلاء عمال يمسكون بنحو 600 عامل، فتصل يوميتهم إلى مليون و200 الف ليرة في اليوم. بالإضافة إلى معلومات غير موثقة عن اتجارهم ببعض النساء السوريات في أعمال البغاء.
في المقابل، يقول بعض العمال الذين يرغبون بتنظيم الوجود السوري في المشاريع لكي لا يبقوا في دائرة الاتهام دائماً، إن الأمم المتحدة هي التي حاولت دون استكمال ورشة توثيق ملفات جميع السوريين في المشاريع لأسباب تتعلق بمعارضين لا يرغبون بمعرفة اسمائهم أو بتكوين ملفات عنهم.
حالة المشاريع اليوم، وعلى خلفية ضرب الإرهاب للقاع وما سيليه، شبه مشلولة بعدما تعذر في اليومين الماضيين قطف مواسمها والتزام العمال واللاجئين خيمهم، وعدم عبور الآليات لنقل مواسمهم وهو ما يوقع خسائر كبيرة بأصحاب المشاريع.
يبقى أن هناك نحو 750 مزرعة في مشاريع القاع يستثمرها لبنانيون من مختلف المناطق اللبنانية: من الجنوب وطرابلس وعكار وكسروان وبيروت وزحلة وعرسال والقاع والهرمل، وبالتالي تتنوع الاهواء السياسية لهؤلاء بتنوع انتماءاتهم، وطريقة تعاطيهم مع الملف برمته.