كتب عماد مرمل في صحيفة “السفير”:
حتى في وداع شهدائها الخمسة، أثبتت القاع أنها “قمة”.
تحدت المخاطر الداهمة وقارعت أشباح الإرهاب في الهواء الطلق، لتبادل الذين افتدوها بدمهم، الوفاء ونكران الذات.
لم يكن وداع الشهداء مجرد مأتم أو جنازة. بدا فعل مقاومة وحياة في مواجهة المد الظلامي الذي لا يميز بين بروكسل واسطنبول وباريس وبغداد… والقاع.
تفوق الأهالي على حزنهم العميق وقلقهم المشروع، ووجهوا رسالة مضادة للتكفيريين لا تحتاج إلى شرح كثير: “باقون هنا ولن نرحل”.
وبعد مضي أيام عدة على “الجريمة المتدحرِجة”، بات واضحا أن اختيار القاع هدفا لـ”تسونامي” الانتحاريين الثمانية (عدا من أفلتوا) إنما انطلق في حسابات الجماعات التكفيرية من الاعتبارات الآتية:
ـ وقوع البلدة على مقربة من الجرود المحيطة حيث ينتشر “داعش”، الأمر الذي يزيد إلى حد ما فرص تسلل الإرهابيين، لا سيما في ظل كثرة المسارب الجانبية.
ـ الهوية المسيحية للمنطقة التي تخلو من أي وجود قتالي لـ “حزب الله”، ما أوهم التكفيريين أن البلدة تشكل خاصرة رخوة يمكن اختراقها بسهولة.
ـ اعتقاد الإرهابيين أن بإمكانهم مباغتة الجيش والاستفادة من أي استرخاء محتمل لتكرار سيناريو الهجوم الشهير على عرسال.
ولكن هذه الفرضيات تهاوت تباعا على أرض الواقع، حيث فشل التكفيريون في إيجاد “موطئ قدم” لهم في داخل البلدة المستهدفة، من دون أن ينفع عنصر المفاجأة الذي تسلحوا به في تسهيل “غزوتهم”، ليبقى السؤال الكبير هو: ماذا كانت الأهداف الحقيقية والمباشرة من وراء اجتياح الانتحاريين لـ “القاع”، بشكل غير مسبوق، سواء لجهة عددهم الكبير أو لجهة تلاحق الهجمات على دفعتَين في يوم واحد؟
تتعدد الفرضيات والترجيحات المتداولة في معرض محاولة تفسير أسباب الهجوم التكفيري الواسع على القاع تحديدا، لكن مصادر واسعة الاطلاع أبلغت “السفير” أن لديها معلومات تفيد بأن الغاية المباشرة من غزوة الإثنين الماضي كانت إحداث نوع من الترويع والصدمة بهدف إشاعة الرعب في البلدة، وبالتالي دفع أهاليها إلى إخلائها ومغادرتها على الفور.
وتكشف المصادر أن الخطوة اللاحقة التي كان يفترض أن تلي تهجير سكان القاع تتمثل في التسرب التدريجي “المنظم” للنازحين السوريين إليها، خصوصا أن الجوار (مشاريع القاع) يكتظ بهم، بحيث يملأ هؤلاء النازحون الفراغ الذي سيترتب على تفريغ البلدة من ناسها.
وتشير المصادر إلى أن “داعش” كان بصدد الاستفادة من هذا التحول الديموغرافي لاستخدام جزء من النازحين كـ “بيئة حاضنة” له، تمهيدا لتمدده من الجرود المجاورة – حيث يُحاصَر- إلى القاع، مفترِضا أن بمقدوره، مع مرور الوقت، إقامة قاعدة متقدمة في المنطقة.
وتلفت المصادر الانتباه إلى أن السيناريو المعد أراد تحويل القاع الى عرسال-2، مع ما يعنيه ذلك من نشوء “دفرسوار تكفيري” آخر في عمق الأراضي اللبنانية، كذاك الذي دفعت ثمنه بلدة عرسال، ولا تزال.
وإذا كانت العناية الإلهية وشجاعة سكان القاع ومبادرة الجيش السريعة إلى التدخل الحازم في الوقت المناسب، هي عوامل ساهمت في إجهاض المخطط الذي جرى تحضيره للبلدة في أوكار الإرهابيين، إلا أن المصادر تشدد على وجوب استخلاص الدروس مما حصل من دون إبطاء، وصولا إلى اتخاذ القرارات الجريئة الكفيلة بتجفيف ينابيع الخطر ومعالجة أسبابه، وليس الاكتفاء بالتعامل مع النتائج والآثار الجانبية.
وتعتبر المصادر نفسها أن المطلوب قطع رأس الأفعى في جحرها، وعدم الاستغراق في اللهاث وراء ذنبها، مشيرة إلى أن التركيز فقط على رصد تحركات الإرهابيين ومطاردتهم بشكل متفرق وإقفال الممرات التي يُرجّح أن يتسللوا منها مجددا إلى القاع، إنما هي إجراءات لا تكفي على أهميتها، خصوصا أن المسارب التي قد يستخدمها التكفيريون للمرور كثيرة، وربما يصعب ضبطها جميعها، علما أن مهمة الضبط هذه تحتاج إلى عدد كبير من العناصر العسكرية التي قد لا تكون متوافرة باستمرار.
وتؤكد المصادر أن السلطة السياسية، والحكومة تحديدا، مدعوة إلى استبدال لعبة القط والفأر في التعامل مع الإرهابيين باتخاذ قرار سياسي شجاع، قوامه تكليف الجيش بالتقدم إلى عمق الجرود المجاورة للقاع، بغية ضرب التكفيريين في مواقعهم المنتشرة هناك وبالتالي استئصالهم من جذورهم، لتعطيل قدرتهم على تهديد القاع ومحيطها لاحقا.
وترى المصادر أن الجيش يملك الإمكانات العسكرية اللازمة لإنجاز هذه المهمة وتحرير الجرود المطلة على القاع من التكفيريين، وما ينقصه فقط هو القرار السياسي الذي من شأنه أن يغطيه ويحمي ظهره على المستوى الوطني.
وتنبه المصادر إلى محاذير تكرار الخطأ الفادح الذي ارتكبته السلطة السياسية وبعض القوى الداخلية الأساسية، في مواجهة الهجوم الكبير الذي شنه الإرهابيون على عرسال، حين امتنعت عن تأمين التغطية اللازمة للجيش كي يحسم الموقف عسكريا، ما أنتج أمرا واقعا صعبا، لا تزال المنطقة تعاني من تبعاته حتى الآن، وكذلك المؤسسة العسكرية التي لم تتمكن بعد من استعادة أسراها لدى “داعش”.
وتلفت المصادر الانتباه إلى أن الحساسية المذهبية، السنية – الشيعية، التي شكلت عائقا أمام الإقفال الجذري لملف عرسال وجردها المحتل، ليست موجودة في القاع التي تحمل لونا مغايرا، ما يقود إلى الاعتقاد بأن هامش الحركة في مثل هذه الحالة ينبغي أن يكون أوسع، لا سيما أن المرجعيات المسيحية للقاع بكل تلاوينها أجمعت على ضرورة الاحتكام إلى الجيش حصرا، لحماية البلدة ومكافحة الإرهاب.
وعلمت “السفير” أيضاً أن إعادةَ تموضعٍ للجيش اللبناني ستتم قريباً على خلفية تعزيز الجبهة الحدودية الشرقية التي يسهر الجيش على حمايتها، في حين أن مسألة وجود نحو 30 ألف سوري في منطقة مشاريع القاع ستعطى الأهمية اللازمة لناحية توثيق ملفاتهم وكامل المعلومات الواجبة عنهم، ومراقبة أي تحركات مشبوهة.
ووفق رواية أمنية موثوقة، فإن عشرة انغماسيين تم تدريبهم في أحد المخيمات في وادي ميرا لمدة ستة أشهر، قبل أن يتم إرسالهم، حيث تستمر محاولة العثور على إثنين لم ينفذا حتى الآن المهمة المطلوبة منهما، ووفق الرواية نفسها، فإن سبعة من الانتحاريين الثمانية، تتراوح أعمارهم بين 16 و19 عاما فقط، وهم من التابعية السورية على الأرجح، فيما يراوح عمر انتحاري ساحة الكنيسة ليلا (الخامس بترتيب عمليات التفجير)، نحو 25 عاماً وهو من جنسية عربية (خليجية).
وقال وزير الداخلية نهاد المشنوق إن ما حدث في القاع “ليس أمرا عابرا بل جزء من مخطط يحضر له”، مؤكدا استمرار التحقيقات. وأشار في حديث مع “الجديد” إلى أن الانتحاريين “لم يكونوا مقيمين في لبنان أو في مشاريع القاع بل في الأراضي السورية، وتم الحصول على هذه المعلومات من موقوفين تعرفوا عليهم بالأسماء الأولى أو بالأسم الكامل أو من قراهم”، مؤكدا اعتقال 7 شبكات إرهابية في الأشهر الأخيرة وتعطيل مخططاتها، وقال إن الخلايا الإرهابية الجديدة “هي خلايا عنقودية، أفرادها لا يعرفون بعضهم البعض، وكل واحد مكلف بمهمة محددة، وهذا أسلوب جديد، والأمر الجديد هو أيضا تنوع الأهداف، فالعمليات كانت مركزة سابقا على مناطق “حزب الله”، أما الآن، فإن الأهداف مركزة على الأجانب”، مضيفا: “هناك 10 أهداف محتملة للاستهداف، ليس بينها الشواطئ والمراكز التجارية”.