كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
كي لا تنتهي مجزرة القاع الثانية في أربع وعشرين ساعة ويقفل ملف الهجمات الانتحارية عليها وما دُبِّر لها من مخطط أمني واسع بكلمات رثاء واستنكار فحسب، وحتى لا تعود المياه الى مجاريها في الوسط السياسي والعسكري وكأن شيئاً لم يكن، ويستمر تجاهل حقيقة ما حصل والتعامي عن الارتدادات، إن في الاوساط السياسية المسيحية أو الاسلامية، لا بد من محاولة رسم بعض الحقائق حول القاع وأهلها وجوارها والامن العسكري والسياسي والاجتماعي فيها.
لم تكن بعد عائلات القاع قد دفنت شهداءها حين بدأت حقيقة المجزرة تتكشّف لمن زار البلدة في الساعات الاخيرة. ليس صحيحاً أن الذي جرى صدفة ولا هو ابن ساعته، ولا فجّر الانتحاريون أنفسهم على حين غفلة أو لأنهم فوجئوا. ما جرى في القاع أدهى بكثير مما تحاول بعض الاوساط السياسية والامنية التخفيف من وقعه، فهو عملية بالمعنى الفعلي للكلمة، وليس مجرد تسلل أو محاولة مرور عابرة الى مناطق أخرى. ما جرى، أيضاً، أن ردّ الفعل الامني والعسكري لم يكن على القدر المطلوب، إن بسبب التراخي الامني والاستخباري الذي جعل الانتحاريين يصلون البلدة فيما يتم فجأة اكتشاف الغرفة التي مكثوا فيه وتصور على كل شاشات التلفزيون، أو بسبب قلة التدابير الامنية المتخذة بخلاف كل الترويج الاعلامي، وإن أيضاً بسبب عدم وجود قرار سياسي وعسكري بالمواجهة، وهو ما يظهر يوماً بعد آخر. فليس تفصيلاً أن حزب الله هو من قام ــــ بعد العمليات الانتحارية ــــ بعملية ليلية استباقية بعد الخشية من مخطط كبير على القاع. وفقاً لذلك، يمكن أن يكون ضرورياً البحث جدياً في ما حصل، لأن القضية لم تنته بتفجير الانتحاريين أنفسهم، ولأن ما يطلبه أهل القاع الذين لم يصدّقوا أي رواية رسمية أعطيت، هو ألا تتكرر العملية، وهم ليسوا واثقين من أنها لن تتكرر ما لم توضع المعالجات فوراً على سكة التنفيذ وعدم الاكتفاء بالبيانات والتصريحات التي لا تقدم اطمئناناً يذكر. ومن هذه المعالجات إقامة منطقة عسكرية ومعالجة مخيم النازحين الذي تحول، بحسب وصف أبناء المنطقة، مجموعة إمارات داخل المخيم وليس إمارة واحدة.في البيان الذي أصدرته الرابطة المارونية والمؤسسة المارونية للانتشار، حين زارتا القاع واجتمعتا الى أبنائها ورئيس بلديتها بشير مطر، كان اتفاق على المطالبة بإعلان القاع والبلدات المحيطة بها منطقة عسكرية. في هذه الخطوة الأولية إصرار على أن تعلن القاع ومشاريع القاع وراس بعلبك والجديدة والفاكهة منطقة عسكرية، وهذا يعني عملية وضع قيادة الجيش اليد على كامل المنطقة وتحويلها فوراً منطقة عسكرية معززة بكل ما يحتاج إليه الجيش من قوى لتنفيذ هذه المهمة. وليست المطالبة بتحويل المنطقة عسكرية لأن هذه البلدات مسيحية بالمعنى الطائفي، لكن هذه البلدات التي لا تشكل جزءاً من الصراع الاقليمي، ولا من حرب سوريا، وجدت نفسها فجأة ومنذ لحظة اندلاع الحرب في سوريا، في خضم هذا الصراع، وصارت تدفع تدريجاً ثمناً لا قدرة لها على احتماله، حتى من دون تحوّلها قبلة للانتحاريين، لأنها أساساً لا تملك أي مقومات للدفاع عن نفسها، ولا للحياة والديمومة الاقتصادية بفعل الظروف التي تعيشها منذ سنوات طويلة.
قصة القاع مع الاعتداءات على مشاعها وبناء مئات المنازل من دون وجه حق على أملاكها، وتقاسم المياه مع اللبوة وصولاً الى مطالبتها بحصتها من المياه بعدما سحبت منها، ليست قصة جديدة، وإن تجاهل جميع المعنيين العمل على معالجتها، الى أن أوعز حزب الله في الساعات الاخيرة بضرورة ردّ المياه لأصحابها. ومن يعرف أيضاً مشاكلها الزراعية، إحدى ركائز عيشها الاساسي، يعرف أيضاً في المقابل أن مؤسسة كنسية فاعلة تجاهلت مطلبها بالمساعدة في إقامة برادات تخزين، وأهملتها لسنوات عدة من دون أن تتجاوب معها. ومن يعرف القاع ومحيطها ومساحاتها الجغرافية المترامية في السهل، يدرك أن مشاريع القاع في المقابل تشكل عمق البلدة بملايين الامتار التي تحولت في عامين الى منطقة تقع تحت سيطرة النازحين السوريين بكل ما للكلمة من معنى. يتجاهل الكثيرون، بحجة حقوق الانسان، حقيقة ما يحصل في مخيمات النازحين السوريين التي تحولت بفعل المساعدات من الامم المتحدة ومن جمعيات ودول، إلى إمارات «إسلامية» يقطنها نازحون تصل مداخيل بعضهم الشهرية من المساعدات الى أكثر مما يحصل عليه بعض أبناء المنطقة من المزارعين. حتى إن جزءاً من هؤلاء يعبّر عن رفضه العودة الى سوريا ولو كانت آمنة. وبعض الذين كانوا يعملون في مزارع القاع تم تسجيلهم كنازحين، وتوقفوا عن العمل.
في منطقة لا تصل اليها الكهرباء إلا ساعات معدودة وتعاني من شح المياه وتجاهل المؤسسات الرسمية لها (كما في كل البقاع الشمالي) والمؤسسات الكنسية أيضاً، يصبح الخطر الامني المتأتي من الحرب السورية مضاعفاً، وتتحول مجزرتها الثانية منعطفاً خطيراً يفترض أن يؤسس لمعالجة جدية لإنهاء ما تعانيه مع البلدات المحيطة بها. وإذا كانت الجديدة والفاكهة محميتين ببلدة اللبوة، يتحول الخطر الحقيقي على القاع وراس بعلبك واقعاً لا يمكن التهاون فيه، رغم حمل أبناء المنطقة السلاح، وسط رفض من تيار المستقبل الذي غاب سياسيّوه عن القاع وجروحها. لذا تطرح المعالجة من زاوية المنطقة العسكرية ومعالجة وضع النازحين.
لكن العقبات أمام الأمرين تبدو كثيرة. ففي البند الاول، يملك مجلس الوزراء وحده سلطة إقامة هذه المنطقة، إذا افترضنا أن قيادة الجيش ستتقدم بهذا الطلب. والسؤال هنا: هل يوافق رئيس الحكومة وتيار المستقبل على هذا الامر، مع ما تقتضيه حيثيات إقامة هذه المنطقة وتعزيز الامن فيها وفرض تدابير أمنية تمتد من القاع الى المشاريع، بما في ذلك وضع مخيمات النازحين تحت الرقابة الامنية المباشرة؟ وهل يقبل المستقبل أن توضع هذه المنطقة الحيوية حيث يتمدد أبناء عرسال أيضاً تحت سلطة الجيش في شكل كامل، لا في الشكل الذي تمت به معالجة مشكلة عرسال قبل عامين؟ علماً بأن زيارة الهيئة العليا للإغاثة إلى البلدة بدت شكلية، ولم تعلن عن نية تقديم مساعدات لأهالي البلدة الذين يحتاجون، كما جزء كبير من أهالي البقاع الشمالي، إلى ما هو أكثر من التعويض عن الأضرار. واقتصرت المساعدات العينية المقدمة إلى البلدة على مؤسسات مارونية ورجال أعمال لتلبية حاجات ضروية طارئة. وهل يمكن أن يتحمل مجلس الوزراء مسؤوليته كاملة عن قضية بهذا الحجم، بعدما خرق الانتحاريون حاجزاً أساسياً وجسوا النبض لاستكشاف قوة الردع اللبنانية؟ وهذه القوة ليست أمنية فحسب، بل سياسية تكشفت سريعاً بأسلوب الحكومة والتيارات السياسية كافة، بما فيها المسيحية التي لم تبادر الى عقد اجتماع موسع على مستوى القيادات لدرس ما حصل. والنقاش هنا ليس بسبب الهوية الدينية لأهالي البلدة، بل لأنهم ببساطة لا يملكون سبل الدفاع عن أنفسهم.
ثمة مخاوف حقيقية من أن يتم تجاهل تعزيز الامن في القاع ومحيطها بما تقتضيه مصلحة المنطقة وأبنائها، لأن ما حصل يمكن أن يتكرر في غير منطقة، وسط سؤال أمني طرح بالأمس: ماذا لو تم استهداف بلدات مسيحية في الاطراف الشمالية كالقبيات وعندقت في عكار؟ صحيح أن الجيش موجود بقوة مركزية هناك، لكن اختلاف الظروف الأمنية والسياسية بين البقاع وعكار يمكن أن يتسبب أيضاً بحالة أمنية غير مسبوقة.
أما في ما خص وضع النازحين الذي ترفض بعض القوى السياسية مقاربته بعقلانية، فإن ما قاله محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر عن النازحين في المنطقة وسط التدابير التي اتخذها ليلة الجريمة، يبنى عليه، وإن كان كلامه أثار استياء شخصيات تيار المستقبل. فوضع مخيم مشاريع القاع لم يعد مقبولاً، لا أمنياً ولا اجتماعياً، ولا سياسة الامم المتحدة في المنطقة تجاه المخيم، والفساد فيها مع مؤسسات دولية أخرى، سياسة ناجحة بالمعنى اللبناني. لا بل إنها في كثير من المفاصل باتت تعطي عكس مردودها الحقيقي. المشكلة أن كل كلام عن هذا المخيم يواجه بالاتهام بالعنصرية، علماً بأن أي محاولة أمنية لتفتيشه وفرز النازحين عن أولئك الذين يلجأون اليه لتنفيذ مخططات إرهابية، لا تزال تقابل بردود فعل مستنكرة.
ثمة حقائق كثيرة أفرزتها مجزرة القاع، منها أن هناك رغبة في تجاهل وإخفاء واقع أن القرى المجاورة شكلت سنداً للقاع، وسارعت الى نصرة البلدة ونقل جرحاها وشهدائها وحمل السلاح مع أبنائها، وأن تدخل حزب الله المدفعي في وجه المسلحين ساهم في تخفيف الاحتقان العسكري الذي كان مخيّماً على البلدة. تبدو أسباب هذه التعمية من أدوات العمل السياسي المنقسم بين مؤيد لحزب الله ومعارض له. لكن، في المقابل، هناك حقائق أساسية: من يرفض دور حزب الله حول القاع، لا بد أن يلجأ الى خطوات بديلة، لا تشبه ما حصل مع عرسال، لأن تلك المعالجة أوصلت الى خطف العسكريين، وتبعات تمدد مخيم عرسال السوري واعتراف وزير الداخلية باحتلال عرسال، فيما هلل هو نفسه لانتخابات عرسال البلدية. هناك حقائق أخرى تحتاج الى توصيف ومعالجة: من يطالب بالجيش وحده فليسمح بمنطقة عسكرية وبفرض أمن مضبوط على مخيم النازحين، وإلا فإن الأمن الذاتي لن يبقى يتفرج على اجتماعات الحكومة المتواصلة ولا على السياسيين يتقدمون الصفوف الاولى لمهرجاناتهم الصيفية. خمسة شهداء في القاع: الجريمة يجب ألا تطوى، وألا يقفل ملفها، وإلا فإن تهجير مسيحيي الأطراف غير المحصنين قد يكون أصبح على المحك.