كتب محمد نزال في صحيفة “الأخبار”:
البيان رقم 1 لـ”الخلافة” الداعشيّة، قبل نحو عامين، كان بيان إعلان ولادة “الخلافة” نفسها، أمّا البيان رقم 2 فلم يكن سوى: “إلغاء تدريس الفلسفة”. إلى هذا الحد المسألة مهمّة عندهم. تدريسها جريمة، فعل كفر وزندقة، وبالتالي لا تخفض عقوبتها دون “قطع الرأس”.
الجماعة ليسوا حمقى، كما يحلو للبعض تصويرهم، إنّما يعلمون جيّداً ما يفعلون. لا يُتوقّع مِن عاقل، وقد حاز سلطة، أن يسمح بتدريس ما يُهدد سلطته، بل “أيديولوجيته” وأصل فكرة وجوده. لكن ماذا يُقال عن مجموعة أشخاص في لبنان، يحوزون سُلطة، وهم ليسوا من اتباع البغدادي حتماً، إنّما، وغالباً، بغايات “زاروبيّة” مُتخيّلة تحمل الكثير مِن الوهم والسذاجة، قرّروا الآن أن يُفرحوا قلب “الخليفة” الحاكم ما بين الموصل والرقّة، ويلتقوا معه!
ناقوس الخطر الذي قُرِع مِن بعض مُدرّسي الفلسفة في لبنان، خلال الشهر الماضي، على خلفيّة حذف فصول مِن المادّة، بطريقة اعتباطيّة وفجائيّة، في امتحان الثانويّة العامة… تبيّن أنّه كان في محلّه تماماً. المسألة ليست مجرّد حذف فصول، ليست مجرّد “تسهيلات” آنيّة خدمة للطلاب، لمرّة واحدة كما قيل، بل إلغاء لمادّة “الفلسفة العربيّة” مِن أصلها منهجيّاً.
يوم الخميس الماضي، في قصر الأونيسكو، وفي ختام الندوة التي نظّمتها رابطة أساتذة التعليم الثانوي، بهدف “تطوير مادّة الفلسفة ووعي أهميتها في بناء الإنسان”… فوجئ بعض الأساتذة الحاضرين بإذاعة توصيات لم تُناقش معهم، بل أكثر مِن ذلك، فوجئوا بالدعوة إلى التوقيع عليها عند الباب أثناء مغادرتهم. مِن بين هذه التوصيات، وبنص واضح: “دمج مادّة الفلسفة العربيّة بمادة الفلسفة العامة”. عندها، حصل هرج ومرج، ارتفعت الأصوات مِن المعترضين، في الوقت الذي كان فيه بعض الحاضرين يوقّع ويُغادر. في وقت لاحق، كتب بيار مالك، مسؤول قسم الفلسفة في المركز التربوي للبحوث والإنماء التابع لوزارة التربية، إن “الموافقة على الدمج تمّت”. كتب ذلك للمجموعة التي تضم الأساتذة على تطبيق “واتس آب”.
ما الذي يحصل؟ ما حكاية هذه الحماسة للتخلّص مِن “الفلسفة العربيّة” بهذه الطريقة المُريبة؟ في الواقع، ليس بالضرورة أن يكون لوزير التربية الياس بو صعب علاقة بهذا الإيعاز مباشرة، إنّما، وبحسب أساتذة متابعين، فإن “بعض مَن له ثأر مع الفلسفة العربيّة منذ أمد بعيد، بما تُمثل مِن صبغة إسلاميّة، ونتيجة لنزعة طائفيّة مقيتة عندهم كأفراد، أخذوا من تساهل الوزير في الآونة الأخيرة فرصة للانقضاض على المادة وتهشيمها”. بعض الأساتذة الذين عملوا سابقاً مع بيار مالك، الذي يبدو أنّه مِن أكثر المتحمّسين لإلغاء الفلسفة العربيّة، ينقلون عنه تحامله على “الثقافة الإسلاميّة” بشكل عام، والاستخفاف برموز تاريخية لمعت فكريّاً في هذه الثقافة، في إطارها الحضاري – الزمني، بمعنى أشمل مِن الدين كعقيدة وشريعة. كم تبدو الحكاية مبكية، لا مضحكة، عندما يتبيّن أن أمثال هؤلاء، وبهكذا وعي يميني أصبح خارج اللحظة التاريخيّة، هم الذين يُحدّدون ماهية المناهج الدراسيّة للأجيال! هذا ما يتداوله عدد لا بأس به من أساتذة الفلسفة اليوم، وبغض النظر عن ثبوته مِن عدمه، لا تجد أي جهة رسميّة مستعدة لأخذ ما يُقال على محل الجد، أقلّه للتحقيق والتثبّت. يَصدق، مُجدّداً، أولئك الذين يقولون دوماً: إن الحرب الأهليّة لم تنته. لقد سكت المدفع، فقط، إنما رواسبها ما زالت تحرّك الوعي هنا وهناك. وبالمناسبة، ليس لـ”داعش” الحاليّة، بما هي امتداد للعقل السلفي التاريخي، بالمعنى الضد عقلانيّ، ثأر مع ديكارت أو كانط أو هيغل، إنّما ثأرهم كان، وما زال، مع النبات الفلسفي المحلي للتربة التي أنتجت أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد. هؤلاء الذين يجتمع ضدّهم “الداعشي” و”الطائفي” على حدّ سواء… وكلّ لأسبابه. هنا كلّ الحكاية.
لكن، في المقابل، ثمّة بقعة ضوء في هذا المشهد، أساتذة فلسفة مسيحيين، بعضهم متديّن، وقفوا في الخطوط الأماميّة دفاعاً عن الفلسفة العربيّة. منهم، مثلاً، أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتورة نايلة أبي نادر. كانت حاضرة في ندوة الأونيسكو، واعترضت بحدّة، واصفة بأسى ما يحصل: “أننا أمام مجموعة مِن السلفيين المسيحيين كانوا وما زالوا يتحيّنون الفرص لإلغاء الفلسفة العربيّة. يُسخّفون المادّة ويهزأون مِن فائدة أن يدرس الطالب تاريخ التصوّف، مثلاً، وعموماً ما يمت إلى العقلانيّة الفلسفيّة التي ظهرت في البيئة الإسلاميّة تاريخيّاً. كأنهم يقولون للمسيحي إن المسلم ليس لديه تجارب عقلانيّة مضيئة، وأنهم داعش فقط، وبالتالي عليك أن تظلّ خائفاً منهم”. وتضيف، شاكية مِن قلة المتضامنين مِن المعنيين، وغير مصدّقة لما تتعرض له المادّة مِن تحقير: “هذه جريمة. ما يحصل، إن اكتمل، فنحن أمام جريمة بحق الفلسفة والإنسان”. أستاذ آخر، معروف في الوسط التربوي بتمسّكه بالعلمانيّة، يرفض “هذه المهزلة التي تحصل. نرفض أن تكون المسألة طائفيّة، لكن أيضاً لا يمكن السكوت، المسألة ليست شخصيّة إطلاقاً. القضية علميّة محض. مع دمج المادتين سيصبح التدريس مستحيلاً، لن يتعرف الطالب على خصوصيته الثقافية عندها. الفلسفة أهميتها بفعلها التركيبي وليس بفعلها الجزئي. هي ليست فكرة، بل سياق، وهم يُخرجون الفلسفة الإسلاميّة مِن سياقها التاريخي ومضمونها الحضاري. يريدون أن يتم عرضها بشكل موجز، كأفكار معلقة في الهواء، وهذه مهزلة”. لا داعي لأن نحوّل المشكلة إلى ثنائيّة مُسلم – مسيحي. الذي فينا يكفينا. القضيّة لا تحتمل طفوليّات وبهلوانيّات، كان يُفترض أن تكون انقرضت، وأصبحت مدعاة للسخرية، وتستحق أن توضع بمرتبة “ما فوق التفاهة” قياساً باللحظة التي يعيشها عالم اليوم.
حسناً، إن كان القيّمون اليوم لا يُحبّون فلاسفة الإغريق، ولا يودّون الوقوف عند فلاسفة العصر الإسلامي، فلا بأس، إنّها ذائقتهم الخاصة، ولكن شرط ألا نكون أمام “خبيصة” مناهج. فلتكن علميّة بكل ما للكلمة مِن معنى. وهنا لا بأس أن يُراجعوا أحد فلاسفة العلم في العصر الحديث، كارل بوبر، في “البحث عن عالم أفضل” إذ يقول: “لا يمكن التعامل مع الفلسفة بوصفها مُتحفاً تُعرض فيه صور عن العالم بطريقة تجميعيّة مُكثّفة. وقد يَظلم المرء كبار الفلاسفة حينما ينفي عنهم الأصالة ويشبههم بالذين يكتفون بعرض إبداعاتهم الفنيّة للجمهور”.