كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:
في 15 تموز الجاري، يكمل الموظفون في مؤسسات رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عشرة شهور من دون أجور. يعملون ولا يقبضون؛ قطع عن بعضهم اشتراك الكهرباء، ويتجنب بعضهم أصحاب دكاكين الخضر والسمانة المحيطة بمنازلهم بعدما «قيّدوا على الدفتر» ما يعجزون عن سداده، وهم توقفوا منذ أشهر عن إجابة المصارف التي تواصل الاتصال لمطالبتهم بسداد السندات المستحقة عليهم بعدما استحصلت على قرارات قضائية بمنعهم عن السفر، فيما الحديث عن الأبناء والعائلات دراما حقيقية.
وهناك دائماً غصة تبدأ في أول الحديث ولا تنتهي بانتهائه. فالعمل في مؤسسات المستقبل الإعلامية التزام سياسيّ أولاً، ومن بقي هناك يعلم أن ما من مكان آخر له، فلا يسعه الإفصاح عما يعانيه خشية أن يؤذي مشاعر «الشيخ سعد». ومشاعر «الشيخ» حساسة جداً. فالرجل الذي تقدر فوربس ثروته بـ1.63 بليون دولار، أمَرَ عشية العيد بصرف نصف راتب لموظفيه، علّهم يرتدون يوم العيد فردة حذاء بدل الفردتين ويتناولون نصف كعكة بدل الكعكة ويعايدون أبناءهم نصف معايدة. فرئيس تيار المستقبل يفصل بين ماله الخاص الذي يصرفه على القصور والدراجات النارية ورحلات الاستجمام، والمال السياسيّ الذي يدفع بواسطته رواتب موظفيه.
وهو لا يتوقع من الموظفين أن يبادلوه بالمثل ويفصلوا بين الوظيفة التي يعتاشون منها وولائهم المطلق له. وكان الحريري قد بلغ من «الجرأة» قبل بضعة أشهر حدود الذهاب إلى قناة المستقبل مع بضعة مشجعين، بدل المال، عمدوا إلى مقاطعته في كلمته العاطفية للهتاف باسمه. ويومها كان يفترض ببعض الموظفين أن يصارحوه بأحوالهم، لكن المنظمين للزيارة منعوا الحوار المحترم بين العمال ورب العمل. وطوال شهر رمضان لم يتوقف الموظفون في وسائل المستقبل الإعلامية عن التعبير عن معاناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً التقنيين والوجوه غير التلفزيونية التي لا تلقى التفهم والتضامن نفسيهما اللذين يلقاهما «المشاهير»، علماً بأن الحياة في هذه الوسائل الإعلامية تحولت في الأشهر القليلة الماضية إلى جحيم حقيقي في ظل فقدان المديرين لسلطتهم، وعدم قدرتهم على إعطاء التوجيهات للموظفين، فيما تتفاقم يوماً تلو آخر المشاكل التقنية. فاللمبة التي يبلغ ثمنها ألف ليرة لا تبدّل حين تحترق، وقبل بضعة أيام كاد عطل تقني طارئ أن يطيح نشرة الأخبار. يجري ذلك في ظل توتر الموظفين بعضهم ضد بعض طوال الوقت، وتحول النقاش في أي قضية إلى خلاف كبير، كما حصل داخل التلفزيون حين فتح موضوع الإعلامي إيلي الحاج (الذي كتب على حسابه على فايسبوك ما اعتُبِر مساً بالدين الإسلامي) فكاد أحد المطاوعة الجدد يعتدي على زميلته بالضرب.
وأخيراً توجهت أربع مراسلات وموظفون من أقسام المعلوماتية والموقع الإلكتروني وبرنامج أخبار الصباح (برنامج السابعة صباحاً) للقاء رئيس مجلس الإدارة رمزي جبيلي وإبلاغه أن الوضع ما عاد يطاق، وهم يحتاجون إلى أجر ثلاثة أشهر أو سيعلنون يوم الخميس المقبل أول أيام الإضراب المفتوح، فتهرّب جبيلي من الإجابة قبل أن يؤكد بوضوح أن تأمين معاشات ثلاثة أشهر مستحيل، لكنه سيسعى في سبيل تأمين راتب كامل. فما كان من الموظفين سوى إعلان إضراب مفتوح يشمل غالبية البرامج المستقبلية، علماً بأن العمال لا يزالون غير منظمين كما يجب حتى الآن، وهناك من داخل البيت من يشوّش عليهم ويخوّنهم ويحاول تبييض وجهه على حسابهم، رغم أن هؤلاء أكثر من «ينق» ويشمت بالحريري في مجالسهم الخاصة. إلا أن التداول الواسع بالإعلان عن الإضراب على مواقع التواصل الاجتماعي أمس دفع بعض النشطاء السياسيين الذين يملكون خبرة في هذه المجالات إلى إجراء الاتصالات اللازمة لتنظيم صفوف المحتجين وإنجاح الإضراب وتحقيق غايته، خصوصاً أن هناك عدة مجموعات من المتضررين من سياسة الحريري المالية في مؤسسات حريرية أخرى يمكن أن يلاقوا هؤلاء في منتصف الطريق. وعليه، لم يحسم بعد إن كان المضربون سيتوجهون إلى أماكن عملهم ولا يعملون أو سيبقون في منازلهم. وفي ظل ارتباك الإدارة التي تعاني ما يعانيه هؤلاء الموظفون، وبعضها يشاركهم الإضراب، لم يعرف ما إذا كانت ستبدأ فوراً إجراءات ضد المضربين أو ستصرف النظر عن ذلك لمعرفتها بأنهم أوفى بكثير ممن نزلوا من القطار الحريريّ في أول محطة. والأكيد في هذا السياق أن تحرك موظفي الحريري لا علاقة له من قريب أو بعيد بأيّ حسابات سياسية، وقد بلغ الموظفون في تسامحهم حدّ المطالبة الآن بثلث حقوقهم المستحقة فقط، علماً بأن مجموع الحقوق لا يتجاوز 10% من الفوائد الشهرية لثروة سعد الحريري في المصارف، ويمكنه المبادرة، ولو لمرة واحدة في حياته، إلى الدفع من ماله الخاص، بدل الاستمرار في انتظار المال السياسي.