كتب الدكتور جورج شبلي (بمناسبة سنة الرحمة التي أعلنها البابا فرنسيس)
في البداية نرى من الواجب تفكيك كلمة “رحمة”، للتدرّب على فهمها فهماً وافياً، تِبعاً لقاعدة ثابتة ونهائية. لذلك، لا بدّ من أن نتجنّب قراءتها قراءة سريعة تستعرض ظاهرها من دون الجوهر، فنكون كمن حَجَب نفسه وراء شجرة فاحتجبت عنه الغابة بأسرها. فالقراءة المعمَّقة تكسبنا مهارة الكشف عن مَحاور هذا المفهوم، وبالتالي الإحاطة بإشاراته ودوائره وحركته.
الرحمة في اللغة هي الرقّة والتعطّف، وفي الإصطلاح هي صفة تقتضي إيصال المصالح والمنافع الى العَبد، ما يعني أنّ رقّة النفس هي التي تبعث على سَوق الخير الى مَن تتعدّى إليه.
أما رحمة الله فتتجلّى عند البعض بالتغاضي عن الخطأ، أي المسامحة، كلا، فالرحمة أعمق من المسامحة وأشمل وأدقّ. وإذا كانت المسامحة عند الإنسان فضيلة، فالرحمة عند الله طَبع، وهو بها يعيد الصلة بينه وبيننا، هذه الصلة التي قطعناها بانفصالنا عنه بالخطيئة.
الرحمة نعمة، أو هي عودة الى دائرة النعمة الإلهية. والنعمة هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان الى الغير، والمقصود هنا تحديداً نفع الخَلق من الخالق. يبدأ هذا النفع بفعل الخَلق نفسه، وهذه نعمة يتفرّد الله بإيجادها رزقاً للعالمين. المهم هنا، بالإضافة الى وجود هذه النعمة، أن يدرك المُنعَم عليه أنها موجودة، ويدرك بالتالي مدبّرها وواهبها. والأهم أن يدرك الإنسان بأنه محتاج إليها.
الإنسان ظلوم في بعض جوانبه، بمعنى أنه يجحد الرحمة كنعمة وينكر أنّها من إحسانات الله، وهي إحسانات من دون مقابل أو عطية عمومية، يتلقّفها الجميع من دون حساب، لذلك هي لا تنزل تحت إحصاء، ولا تُعطى فقط لمَن يسعى. إنها مبادرة مجانية قائمة على محبة الخالق للمخلوق، فهي لا ” تُشترى ” بل تفيض تلقائياً عن طبيعة الله من دون شروط.
الرحمة خلاص أو تضميد لجَرح الله بالخطيئة، لأنها ثبات في عهد الله وبرّه. وهي لقاء وثيق بين الإنسان وربّه، أو رابطة بينهما تجلّت في شخص يسوع المسيح الذي دعا كلّ إنسان الى أن ينضمّ إليه ليكون مثله إبناً لله. من هنا، فالعلاقة هذه لم تعد خاضعة للناموس القديم الذي يصوّر الله جلاّداً والإنسان محكوماً بالمعاقبة المستدامة، بمعنى أنّ المسيح، كلمة الله ورمز الرحمة لديه، استبدل مفهوم الدمعة والخوف بمفهوم تجديد الحياة بالفداء للخلاص.
الرحمة ضرورة مطلقة لنزع صورة الله المشوَّهة من ذات الإنسان، صورة سادوم وصورة القضاء، وبالتالي هي انضمام الى حالة الشِّركة في حياة الثالوث، هذه الشّركة التي تشكّل استباقاً لرؤية الله وتذوّقاً قَبْلياً لنِعَمه، قبل العبور الى الحياة الأبدية بالموت.
والرحمة هي مفهوم مركزي في اللاهوت المسيحي أو هي الطبيعة الخلاصية لله. فهي القوة الصادرة عن الجوهر الإلهي وغير المنفصلة عنه، وهي فعل نقاء لأنها محبةٌ يشترك الله بنفسه فيها أي يطلّ بها الى خارجه، بحيث يتّصل بها الله بما ليس هو الله، فتمثّل تنازلاً منه نحو الخلائق العاقلة لتتحد به بالنعمة.
الرحمة هي فعل لُطف إلهي وليست مكافأة، وليست بالتالي ردّ فعل على التوبة. من هنا فالتوبة ليست شرطاً إلزامياً للرحمة الربّانية، بقدر ما هي نتيجة لها. فالتصريح بالخطيئة لنيل الصَّفح ليس إجباريّاً لاستحقاق الرحمة – وفي هذا المجال لا نتطرّق الى التوبة والرحمة من زاوية الطّقوس وتعاليم الكنيسة لكي لا يُعتَبر كلامنا هرطقة بالشريعة، بل انطلاقاً من فلسفة المحبة المسيحية بالذات – فالأعمال الصالحة ليست تبريراً لإتمام فعل الرحمة، بل هي نتيجة لهذا التبرير. بالإضافة الى أنّ أيّ إشارة الى التبرير هو ابتعاد عن قصد الله، وكأننا نتمثّل الله في حالة غضب علينا ونتمثّل أنفسنا مُذنِبين يجب أن نرضيه.
ولكي لا يتمّ اتهامنا بالتفسير الكيفيّ لتعاليم الكنيسة، فنحن نؤمن بأنّ الرحمة ليست مجاملة تنأى بنفسها عن مفهوم العدالة الإلهية، أو المفهوم الأخرَوي للثواب والعقاب، ولا يمكن في المقابل إدراجها تحت شعار العدالة القانونية الإنسانية لكي لا نشوّهها. ففيض الرحمة يغمر الجميع من دون أن يقرعوا، أو هي القول: ” نَل بالرحمة الحياة فتحيا “، وكأنّ الله يقول لنا:
” لكم عليّ حقّ هو الرحمة أمجّدكم به “، وبهذا يخرجنا من لعنة الدينونة ليدخلنا الى حضرته، فنشكره شكراً يليق بجلاله.