كتبت راجانا حمية في صحيفة “الأخبار”:
أول من أمس، أعلن وزير الصحّة العامّة، وائل أبو فاعور، إطلاق وزارته «مشروع تأمين التغطية الصحّية الشاملة لمن تجاوز عمره 64 عاماً من اللبنانيين في كل المستشفيات الحكومية والخاصّة». هذه «البشرى»، التي أعلنها أبو فاعور في حفل «مركز الباروك الصحّي» بحضور تيمور جنبلاط، استبقت إعلاناً رسمياً عنها، مفترضاً، في التاسع عشر من الجاري في القصر الحكومي.
ربّما، أراد ابو فاعور أن يجيّر هذا «الانجاز» لحزبه. قد لا يبدو هذا التفصيل مهمّاً للبعض، ولا سيما الذين تجاوزوا الـ64 عاماً، وهم الاكثر عرضة للمخاطر الصحية، الذين ينتظرون من يخبرهم أن لا «يعتلوا» هم، فكيف اذا كان الوزير ابو فاعور يعدهم ان حقهم بالتغطية سيصبح، بعد الثلاثاء المقبل، مؤمنا 100% من الوزارة؟
في الواقع، تقول مصادر مطلعة ان احدا لن يجاهر بموقفه ضد هذا المشروع لاسباب سياسية، الا ان هذه المصادر تشكك بجدواه، فالاستشفاء على عاتق وزارة الصحة متاح لغير المضمونين وفقا للصيغة «الزبائنية» المعروفة، التي لا تميّز اصلا على اساس السن، ولكنها حتما صيغة مذلّة ومكلفة في آن واحد. وتشير هذه المصادر الى ان اي نظام لا يقوم على اساس المساواة في الحق بالتغطية الصحية لجميع المواطنين سيبقى نظاما فاسدا اضافيا، يسعى الى الاستيلاء على المال العام واستغلاله في سوق المتاجرة بالولاءات.
التمويل من الوفر!
لكن أبو فاعور يطمئن الى أنّ مشروعه الجديد لن يكلّف الدولة شيئاً! وإنّما «سيجري توفير اعتماداته من أماكن أخرى لتصويب فاتورة الإستشفاء». كيف؟ يشرح ان «نظام التدقيق في الفواتير الذي أعلنته الوزارة منذ أكثر من عام»، ساهم في تحقيق «وفر مالي». هذا «الوفر» سيجري توظيفه في تمويل تغطية استشفاء من هم فوق سن الـ64. هل هذا يكفي؟ يضيف ابو فاعور ان وفرا افتراضيا سيتحقق من «نظام التدقيق الآخر المتعلق بالمستشفيات عبر تشديد الرقابة فيها»!
إذاً، يعوّل أبو فاعور على هذين «الوفرين» لتحقيق «مطلبٍ تاريخي كان قد طالب به الحزب الإشتراكي»، بحسب تعبيره. وفر أقل ما يمكن وصفه هو الآخر بـ«التاريخي»، وخصوصاً أنها المرة الأولى التي يحدث فيها استثناء كهذا في لبنان. لكنّه، سيبقى ناقصاً، ولن يسدّ كل المصاريف، اذ ثمّة «عجز» يقدّره أبو فاعور «بحدود خمسة مليارات ليرة لبنانيّة سنعمل على تأمينها من الخزينة العامة، من خلال رفع السقف المالي المخصص للاستشفاء».
5 مليارات «هي أقصى ما يمكن أن يصل إليه العجز»، يقول أبو فاعور. الا ان مصدرا مطلعا يقول ان هذا الكلام «ليس دقيقاً»، اذ ان أبو فاعور يطلب من وزارة المال زيادة مخصصات الاستشفاء بنحو 7 مليارات ليرة لبنانيّة، و»هي على كل حال ليست مبلغاً نهائياً، فقد يحتاج لأكثر، وستزداد النفقات سنة بعد سنة». يستغرب المصدر نفسه كلام ابو فاعور عن «وفر»، «ففي الفترة الأخيرة زيدت موازنة الإستشفاء فقط بنحو 18 مليار ليرة لبنانية، بقرارات استثنائية». ويضيف المصدر «كلنا نعلم ان المستشفيات تستنزف السقف المالي في فترة قصيرة وتمتنع عن استقبال المرضى على عاتق وزارة الصحّة، وتطالب المستشفيات دائما بزيادة حصّتها من مخصصات الاستشفاء». يقرّ ابو فاعور بان المستشفيات بدأت تطالب ـ بعد الوفر ـ بزيادة التعرفة على الفاتورة، الا ان جوابه «بخدم فيهن الناس».
يرفض رئيس نقابة اصحاب المستشفيات سليمان هارون التعليق قبل الاعلان الرسمي عن المشروع. الا ان مصادر النقابة اكتفت بالقول ان لنا في ذمة الدولة مستحقات لا تسددها.
مشروع «القنبلة الصوتيّة»
تشير التقديرات الى ان نصف اللبنانيين ليسوا مشمولين باي نظام تغطية صحية دائم ومستقر، من بينهم اكثرية الذين تجاوزوا سن التقاعد (64 عاما)، اذ ان نظام الضمان الاجتماعي يقوم على مفارقة غريبة، فهو يشمل فقط من هم في العمل ومصرّح عنهم لدى الصندوق، ويحرم المتقاعدين والمتعطلين عن العمل وغير النظاميين اي حماية. تجري حاليا مداولات في مجلس ادارة الصندوق لايجاد آلية لاستمرار الضمان الصحي للمضمونين بعد سن التقاعد، ولكن في مقابل اشتراكات مالية متوجبة على عاتق هؤلاء. فكيف سيجري التعامل مع ذلك في ظل مشروع وزارة الصحّة الجديد؟ يتحدث البعض عن «نقل المشكل من مكانٍ إلى آخر، فالتأمين الصحي دونه آلية ومالية ومحاسبة، وهذا ما ليس واضحاً في المشروع المطروح».
يشير الدكتور اسماعيل سكرية إلى أن «المشكلة ليست في استشفاء من هم فوق الـ64 عاماً أو أي أحدٍ آخر وإنما المشكلة تكمن في السؤال التالي: من أين سنؤمن الموازنات؟». يضيف إلى ذلك، «سردية» المستشفيات الخاصّة والسقف المالي «الذي ينتهي في غالبيتها منتصف الشهر». يفنّد سكرية الواقع، فيشير إلى أنّه «في المستشفيات الحكومية لا فضل لأبو فاعور في هذا الأمر، إذ يحق لأي مريض سواء كان عمره عاما أو 64 عاما الدخول إلى المستشفى على حساب الوزارة وتغطى الفاتورة بنسبة 95%». أما في المستشفيات الخاصّة، فـ«يفتح الله». تضيف مصادر مطّلعة أنّه «في المستشفيات الخاصّة ورقة التغطية ميّة بالميّة ما بتركب، وخصوصاً أنّ هناك مستشفيات لا تقبل مرضى على حساب وزارة الصحة»، والأمثلة موجودة منها مستشفيا الجامعة الأميركية في بيروت وأوتيل ديو دو فرانس. هذا أولاً. أما ثانياً «فهو أنّ السقف المالي الذي كان الحجة للمستشفيات لعدم استقبال المرضى بعد عشرة أيام من دخول الشهر، فتصبح فترة انتهائه أقصر في ظل المشروع الجديد». يعني «بدل ما يخلص بـ10 الشهر، بيصير بيخلص بـ5».
التغطية الشاملة لمن هم فوق الـ64 عاما ستكون من السقف المالي لا من خارجه، وهذا يعني نقل طرابيش لا حلّا للمشكلة. بحسب الإحصاءات التي استند اليها أحد وزراء الصحة السابقين، فانّ من تجاوزوا عمر الـ64 «يمثلون نحو 17% من اللبنانيين، وهؤلاء سيتستنزفون 60% من ميزانية الإستشفاء، فعندما تصبح التغطية مئة بالمئة انتهى السقف». يشير وزير الصحة السابق إلى أنّ «المشروع يحتاج إلى دراسة وليس مسألة وفر». ففي عهد الوزير محمد جواد خليفة قامت وزارة الصحة بدراسة خلصت الى أنّ «كلفة الشخص السنوية تبلغ 400 دولار، في حين ان الوزارة تخصص 200 دولار، ويومذاك زاد السقف المالي 100 دولار، ولكن ماذا عن العجز المتبقي؟».يجيب ساخراً عن هذا السؤال بالقول «بشلّحك سكربينة العشرة آلاف وبلبسك أخرى بسعر ألف ليرة لبنانية، ففي ظلّ هذا التخبّط سينعكس الأمر على نوعية الخدمات ومستواها ومن ستطاول». بالاضافة إلى كل هذا، «لا موازنات منذ عام 2005، ولا حتى عقود نفقات». وفي ظل كل هذا، لا يمكن «صرف» كتاب الوزير «الذي لا يُحسم أصلا من الموازنات»، إلا «من خلال ما يسمونه عقد مصالحات، وهذا الأمر قد يطول وخصوصاً أنه متعلّق بالفائض في الدولة»!
إذا، هي «فلسفة ارتجالية وشعبوية»، يقول احد المهتمين. انّه «تحايل على مبدأ التغطية الصحية الشاملة للجميع». فأين يكمن الحل؟ يقول وزير العمل السابق شربل نحاس انّ «الحل في إقرار التغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين وتمويلها من الموازنة العامة»، ولكن هذه دونها خطوات طويلة لا تختصر لا بتعدّد الصناديق ولا بنقل الطرابيش.
«مشروع» نحاس
عندما كان وزيرا للعمل، رفع نحاس مشروعاً للتغطية الصحية الشاملة لجميع اللبنانيين الى مجلس الوزراء. يومها، تحالفت جميع قوى السلطة لاسقاطه، من ضمنها ممثلو الحزب التقدمي الاشتراكي. قُدرت «الكلفة الإجمالية لهذا النظام وفق أحدث المعطيات المتوافرة والمبنية على القواعد الإحصائية لصندوق ضمان المرض والأمومة بنحو ألفي مليار ليرة، أما الكلفة الصافية الإضافية ـ بعد حسم ما تنفقه الدولة راهنا (كان ذلك عام 2009) على القطاع الصحي عبر وزارة الصحة ومساهماتها في أنظمة التأمينات العامة وشبه العامة ـ فتقدر بنحو 1100 مليار ليرة لبنانية». طرح نحاس تغطية هذه «الكلفة الاضافية عبر استحداث مطارح ضريبية تطاول الأرباح غير المرتبطة بعوامل الانتاج، اي فرض الاقتطاع من الفوائد والارباح الناتجة من التحسين العقاري ومن المتاجرة بالاسهم، وذلك لتلافي محظورين اساسيين: زيادة كلفة العمل النظامي المأجور لدى المؤسسات عبر الاشتراكات، وزيادة كلفة المعيشة عبر الضرائب على الاستهلاك». كان ذلك عام 2009، وحدثت معه معركة ولم يخرج المشروع إلى العلن. أما اليوم، فقد استطاع وزير الصحة وائل أبو فاعور أن يرسي مشروعاً للتأمين الصحي الشامل لمن هم فوق الـ64 عاماً، بلا كل هذه الآليات، وإنّما اعتماداً على «وفرٍ» لا أحد يعرف من أين وكيف؟