كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
سلّطت مجزرة القاع والعمليات الانتحارية التي استهدفتها الضوء على مخيم النازحين السوريين في مشاريع القاع، الذي يشكو منه أهل البلدة منذ أن استوطن النازحون السوريون المنطقة وبدأوا إقامة مخيمهم وتوسعوا فيه الى أن أصبح عددهم يراوح بين 20 و30 ألفاً، من دون أن تملك الجهات الرسمية إحصاءً علمياً ودقيقاً لعددهم الحقيقي أو لتركيبته الداخلية.
ما حصل بعد المجزرة أن التجاذب السياسي أخذ القضية الى مكان آخر، الى رفض الامن الذاتي في القاع كما قال مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان في خطبة عيد الفطر. وتجاهل الجميع خطر المخيم وانفلاش سكانه، والمسلحين «المخفيين» في منطقة حدودية شاسعة، ما يشكل استمرار الخطر على أهل المنطقة، ليصبح الكلام السياسي سجالاً عمّا إذا كانت القاع المستهدفة أم أنها جسر عبور فقط. وبدلاً من التركيز على وضع «المخيم السوري»، ضاع الملف مجدداً في زحمة الملفات التي تتلهى بها الحكومة.
لكن التعامي الرسمي لم يلغ أن العمليات الانتحارية وسقوط خمسة شهداء وعدد من الجرحى والخوف على مصير القاع ورأس بعلبك، أشاعت الخوف في عدد من المناطق في جبل لبنان تحديداً، فانطلقت في حملة تدابير وقائية حيث توجد تجمعات نازحين وعمال سوريين. وهو خوف برّره تخاذل الاجهزة الرسمية والوزارات المعنية والحكومة في التصدي لتداعيات ما جرى في القاع ووضع النازحين، وسط انقسام موقف المشاركين في الحكومة على مستويين: الاول إصرار المستقبل على إبقاء الملف بعيداً عن المعالجة الجدية، وعدم رغبة أمل وحزب الله في أي مواجهة تتعلق بالنازحين تزيد من التوتر السنّي ــــ الشيعي في هذه المرحلة. وبين الطرفين يقف التيار الوطني الحر محاولاً الاضاءة على الملف في المجتمع الدولي.
جاءت الإجراءات التي اتخذتها بعض البلديات في حق العمال السوريين، وما جرى في عمشيت وتداعياته، وما تردد عن إجراءات اتخذها أيضاً محافظ البقاع بشير خضر لمنع تجوال السوريين خلال مهرجانات بعلبك، والدعوات المضادة الى مقاطعة المهرجانات بسبب هذه القرار الذي نفى خضر لاحقاً إصداره، لتثبت أن جمر النازحين تحت الرماد، وأن الحكومة لا تزال تضع رأسها في الرمل، وتتفادى التعاطي في قضية باتت أولوية وطنية تتقدم على سواها من الملفات المطروحة على طاولة الحوار أو مجلس الوزراء، وتفترض مراجعة جذرية لكل ما جرى ومحاولة اتخاذ تدابير مستقبلية بعدما عجز لبنان عن الإجراءات الوقائية. وهذا ليس كلاماً عبثياً، لأن المعلومات التي توافرت في الايام الاخيرة تصبّ ليس في مصلحة تثبيت النازحين السوريين في لبنان فحسب، بل أيضاً في توريط المجتمع اللبناني في صراع داخلي حول هذه القضية. فبحسب معلومات مصادر مطلعة، تؤكد أجواء دولية رفع عدد من العواصم الغربية المساهمات المالية للبنان، ليس لإبقاء النازحين السوريين لديه فحسب، بل أيضاً لتوفير متطلبات إقاماتهم شبه الدائمة فيه. ويتزامن ذلك مع ما يجري في تركيا من سعي الى إعطاء الجنسية للنازحين مقابل كثير من الملفات التركية الدولية. وتعزز هذا الجو بعد العمليات الانتحارية في عدد من العواصم الاوروبية والدولية، وباتت المساعدات تقدم الى لبنان في احتفاليات توحي بأنها لدعم الاستقرار فيه، في حين انها مخصصة للنازحين السوريين عبر قنوات مختلفة، إغاثية ومالية وتربوية وغذائية، وغير ذلك من عناوين. وتنتقد جهات مسؤولة قيام بعض الوزارات، ومنها التربية (المحسوبة على التيار الوطني الحر الذي شنّ حملة على وضع النازحين) على سبيل المثال، بتصوير أهمية تعاون لبنان الرسمي «التربوي» مع المجتمع الدولي لمعالجة أوضاع النازحين التربوية، وتمويل البرامج لتعليمهم وتوفير المدارس لهم، في حين ان هذا الشق جزء أساسي من عملية اندماج كبرى، كما حصل في بعض الدول الاوروبية التي سارعت الى استقبال النازحين قبل استفحال خطر نزوح الآلاف منهم.
وخطورة ما يحصل، بحسب المعلومات، هو أن لبنان بدأ يعتاد الشغور الرئاسي، وتتحدث بعض مجتمعاته عن تعثر تجربة العيش المشترك، وبدأ يعتاد «الوجود السوري» بصيغته الجديدة. ولتعزيز هذه الأجواء، بدأت جهات دولية مانحة وجمعيات دولية، بحسب المعلومات، بحملة تمويل واسعة لتجييش منظمات محلية، تارة تحت غطاء حقوق الانسان وتارة تحت غطاء المجتمع المدني (سبق أن عملت في ملفات محلية مختلفة) لحملة إعلامية وسياسية واجتماعية واسعة دفاعاً عن حقوق النازحين السوريين، وتصوير معاناتهم في لبنان وضرورة التزام لبنان بالمواثيق الدولية لحمايتهم وتأمين متطلباتهم الاجتماعية والصحية والتربوية، علماً بأن موظفين لبنانيين تابعين لمنظمات أممية ويعملون على الاهتمام بالنازحين، يتحدثون علناً في مجالسهم عن عدم رغبتهم في أن يترك السوريون مخيمات البقاع مثلاً، لأنهم «يشكلون توازناً» مطلوباً مع حزب الله في المنطقة.
وفيما يبرز اهتمام أوساط محلية بالنازحين السوريين وبرفض التعامل معهم عنصرياً من منطلق إنساني بحت، تظهر في المقابل حملة الترويج لمنع أي تدابير عملية وأمنية بشأنهم، بما لا يصبّ في هدف حماية حقوقهم الانسانية فحسب، رغم أن الجو الامني والعسكري الذي أشيع بعد مجزرة القاع وعمليات الدهم التي حصلت إنما استهدفت أيضاً تجمعات مماثلة ومناطق محددة في جبل لبنان وبيروت، أعطت مبررات كافية بضرورة اتخاذ اجراءت حول التجمعات السورية.
وبحسب المصادر، فإن سياسيين ووزراء معنيين بملف النازحين يتحدثون في مجالسهم الخاصة عن تعذر القيام بأي عمل في ضوء إصرار دولي وأممي على إبقائهم في لبنان، بصرف النظر عن تحولهم كتلة سكانية ضاغطة على المجتمع اللبناني اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً. ولا يمكن للقوى السياسية الاتفاق على خطة شاملة ومتكاملة لمواجهة المجتمع الدولي، ليس لطلب المزيد من المساعدات المالية، بل لوضع خطة لإنهاء النزوح السوري، وليس الانتظار حتى انتهاء الازمة السورية التي قد تطول لسنوات. وهذا الامر يتطلب خطة حكومية مع عواصم القرار الدولي، وعبر مجلس الامن والمنظمات الدولية، وحتى مع الحكومة السورية، كما يطرح بعض المعنيين، الأمر الذي لا يمكن التفاؤل مطلقاً بالاتفاق عليه، عندما تتقاعس الجهات الرسمية المسؤولة عن ضبط نهائي لوضع النازحين في البلدات وتجمعاتهم، ويهلل لبنان الرسمي ويبتهج لزيارة أي مسؤول غربي يحمل حقيبة من الاموال الى لبنان، ولو كان الهدف منها تأمين «وطن بديل» للنازحين، مستعيداً ملامح سيناريوات 1969 و1973 و1975.