كتب غسان سعود في صحيفة “الأخبار”:
قبل نحو عام، رأى الوزير جبران باسيل أن ظروف إنشائه حزباً خاصاً به قد نضجت، فعكف مع مستشاريه على إعداد نظام حزبيّ يتيح له تكريس إمساكه التام بهذا الحزب عبر الالتفات إلى التفاصيل المتعلقة بولاية الرئيس والنظام الانتخابي وصلاحيات المكتب السياسي وغيرها وغيرها. كتب باسيل النظام الداخلي للحزب وأرسل من يستبدله في وزارة الداخلية بالنظام القديم الذي أعدّه العماد ميشال عون وعشرات الناشطين والاختصاصيين. ولم يلبث باسيل أن فتح باباً جانبيّاً لمن يودّون تسوية أوضاعهم معه لضمان مستقبلهم في هذا الحزب، فهرع كثيرون. ولم يرغب باسيل في منافسة ولو شكلية تخوّله الفوز برئاسة الحزب انتخاباً لا تزكية. ففي وقت يجري فيه حزبا الكتائب والقومي مثلاً مسرحيات انتخابية يحرصان فيها على وجود مرشح مناوئ فيها للرئيس الحتميّ، آثر باسيل السير على خطى الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط منذ البداية.
وبعد «التحرير» و»التحرر»، حدّد باسيل عنوان الانطلاقة الثالثة للتيار الوطني الحر بـ«الالتزام الحزبي». هذا الالتزام الحزبي تعرض لزلزالين كبيرين؛ الأول حين نظمت أول انتخابات مناطقية في التيار فرفض نائب رئيس الحزب الوزير نقولا الصحناوي الاعتراف لاحقاً بنتائجها في بيروت. والثاني حين رفض آلاف المناصرين الالتزام بقرار الحزب في بلداتهم في الانتخابات البلدية الأخيرة. ومع بدء الحديث عن محاسبة غير الملتزمين، اعتقد كثيرون أن المقصود بمحاسبة غير الملتزمين هم الوزير الياس أبو صعب الذي أيّد لائحة بيروت مدينتي المناوئة للائحة المدعومة من التيار الوطني الحر، ونائب رئيس الحزب الوزير السابق نقولا الصحناوي الذي لم يلتزم بالعودة إلى هيئة بيروت قبيل بتّ التحالفات، والنائب نبيل نقولا الذي نشط في ماكينة النائب ميشال المر ضد ماكينة التيار، ونحو نصف الملتزمين في التيار الذين رفضوا الانصياع لأوامر المنسقين في الانتخابات الأخيرة. لكن سرعان ما تبين أن الأمر يتعلق بهيئة بيروت في التيار الوطني الحر التي يمثلها القيادي زياد عبس حصراً.
فرغم استعانة باسيل بأمهر الخياطين لتفصيل قانون انتخابات الهيئات المناطقية على قياس أنصاره، هزمت هيئة بيروت مرشحه نائب رئيس الحزب، نقولا الصحناوي. في انتخابات الأقضية خسر باسيل في الشوف وعاليه وبعبدا والمتن وكسروان وجبيل، لكن لم يفز في المقابل قياديّ أو منسّق مكتمل الملامح التنظيمية مناوئ لباسيل. خسر مرشحوه، لكنّ الفائزين لا يعادونه، بل يطمحون إلى إقناعه بأنهم أفضل ممّن يحيطون به، ولا شيء أكثر.
أما في بيروت، ففاز من كان وما زال يعترض على أداء باسيل لا المحيطين به، ويسمي الأشياء بأسمائها بدل اللف والدوران. وكان طبيعيّاً لمن أقرّ نظاماً حزبيّاً على مقاسه أن يقرّ على عجل محكمة على مقاسه أيضاً لطرد هؤلاء، بحجة عدم الالتزام بتوجيهات القيادة الحزبية، علماً بأن من لم يلتزموا بانتخاب لائحة تيار المستقبل في بيروت ليسوا ثلاثة ناشطين فقط، بل نصف المنتسبين إلى التيار في بيروت وحبة مسك. لكن تمادي المحكمة الباسيلية في انتقائيتها دفعها إلى اختيار ثلاثة فقط. وكان واضحاً في سياق المحاكمة وما سبقها وتلاها أن الالتزام الحزبي لا يتعلق أبداً بالانضباط الحزبيّ، بل بالانضباط السياسي.
فحزبياً هناك ما يشبه التسليم بأنه حزب جبران باسيل وليفعل ما يشاء به. لكن سياسياً هناك من يرفض هضم الانفتاح على سعد الحريري وسمير جعجع والسفارة السعودية ووليد جنبلاط وخالد ضاهر وغيرهم. هناك من لا يقبل أن يقاتل شباب التيار الوطني الحر أزلام النائب ميشال المر باللحم الحيّ خلال النهار، فيما باسيل والعميد شامل روكز يتناولان العشاء على مائدة المر في الليل. والمعضلة الحقيقية هنا تكمن في اعتقاد أصحاب الأحزاب أن الالتزام الحزبي يعني أن يكون رئيس تيار المستقبل سعد الحريري فاسداً ولا يجوز التحالف معه لأن إبراءه مستحيل حين يقرر رئيس الحزب ذلك، وشريكاً رئيسياً في الوطن لا يجوز القفز فوقه حين يقرر رئيس الحزب ذلك. الالتزام الحزبي يعني أن يكون رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع قاتلاً وخائناً ومجرماً وغداراً وغير ذلك مما اعتاد العونيون وصفه به حين يقرر رئيس الحزب ذلك، وقديساً مباركا غفوراً وشريكاً في القرار المسيحي الذي يعلو كل اعتبار حين يقرر رئيس الحزب ذلك.
الالتزام الحزبي يقتضي التظاهر ونصب الخيم والتهويل بعظائم الأمور في حال حصل التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي قبل الظهر والتصرف كأن شيئاً لم يحصل بعد حصول التمديد بعد الظهر. الالتزام الحزبي يعني التنفيذ في انتظار استحداث الوسائل المناسبة للاعتراض بعد عقد أو عقدين. الالتزام الحزبي ارتباط عقلي وعاطفي بعقل رئيس الحزب وعاطفته، فينسى الحزب احتلال وسط بيروت وأجراس كنائس الشوف ومجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب حين ينسى رئيس الحزب ذلك ويتذكرهم حين يستذكرهم رئيس الحزب. يستيقظ رئيس الحزب ويقرر إن كانت سوكلين اليوم حلاً أو مشكلة، ويبلغ المحازبين فيصفقون ويزايدون ويهتفون بحكمته.
يقول أنصار الالتزام الحزبيّ إن انضمامك إلى حزب دليل ثقتك المطلقة برئيسه ـــ حتى لو لم يكن هو رئيسه حين انضممت إليه أو شاركت في تأسيسه ـــ ولا يفترض بك بالتالي التذاكي عليه.
ولا شك في أن الملتزمين، سواء في التيار أو غيره من الأحزاب، أكثر من غير الملتزمين. فالأكثرية تريد من يفكر عنها ويحلل ويعمل ويتدبر لها وظيفة وأجراً وحلولاً لمشاكلها الصغيرة. إلا أن واحدة من فوائد العالم الافتراضيّ هي سماحه بإيصال صوت «غير الملتزمين» إلى عدد كبير جداً من الحزبيين. ولو سئل من يحملون بطاقة حزبية عونية عمن يعرف منهم زياد عبس، لاقتصر عارفوه على قدامى الناشطين الذين لا يتجاوز عددهم ألفين من أصل 16 ألفاً، أما اليوم فالملتزمون بأوامر باسيل اليومية وغير الملتزمين يعرفون عبس، وحتى من لا يوافقه في الشكل يوافقه في المضمون. فهناك في التيار من قرر تنفيذ الأوامر من دون اعتراض: زُر خالد ضاهر فيزوره، تحالف مع سعد الحريري فيتحالف، نسّق مع القوات اللبنانية فينسّق (…) لكن هذا لا يعني أبداً أن هؤلاء سعداء بما يفعلونه. العونيون عونيون لأنهم ضد الإقطاع السياسي، وضد الواقعية السياسية، وضد «أفضل الممكن»، وضد الاعتراض من ضمن المؤسسات، وضد استرضاء خالد ضاهر أو سمير جعجع أو السفير السعودي للحصول على أي منصب، وضد منطق الصفقات؛ هم عونيون لأنهم غير ملتزمين بشروط اللعبة السياسية المحلية. ولذلك فإن المعتقدين أن مشكلة الانضباط تكمن في زياد عبس لا يعرفون شيئاً عن الحزب الذي يقودونه. هناك في كل بلدة زياد عبس ينتظر اللحظة المناسبة للخروج عن صمته والمجاهرة بعونيّته.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن عبس اختار بنفسه توقيت هزّ العصا بعد تيقّنه من أن مستقبله خارج الحزب أكبر بكثير منه داخله، وهو من أحرج باسيل لا العكس، وكان يسعه حفظ رأسه بضعة أشهر أو سنوات إضافية كما فعل منذ عام 2006 حين طبخ التفاهم مع حزب الله وإذا بباسيل يستبعده عن المائدة ويجلس محله، لكنه آثر المواجهة الآن بعد احتراق أوراق النواب وسائر القياديين. وعليه سقطت أمس بحل هيئة بيروت كل العملية الديمقراطية العونية، وبان أن فوز من لا يريدهم رئيس الحزب سيؤدي إلى فصلهم بكل بساطة وتعيين غيرهم. رسمياً، الآن، أهلاً بالتيار في نادي الأحزاب اللبنانية التقليدية.
تجميد عضوية عبس: فتّش عن الانتخابات
يقفل باب الترشح لانتخابات التيار الوطني الحر الداخلية اليوم على وقع حدث رئيسي: تجميد عضوية كل من زياد عبس وجورج تَشاجيان وجان كلود غصن في التيار الوطني الحر، لمدة 4 أشهر. وعبس هو القيادي البارز في التيار الوطني الحر، والمرشح المفترض إلى الانتخابات النيابية عن المقعد الأرثوذكسي في الأشرفية، والذي كان سيخوض الانتخابات الداخلية في التيار، التي تؤهّل الشخصيات التي سيتم اختيارها لخوض الانتخابات النيابية المقبلة. أما تَشاجيان، فهو منسّق بيروت في التيار الوطني الحر، والذي فاز في الانتخابات الحزبية قبل نحو 6 أشهر، على رأس لائحة يدعمها عبس، في مقابل لائحة يدعمها نائب رئيس التيار الوزير السابق نقولا الصحناوي، فيما يتولى غصن أمانة سر هيئة «الوطني الحر» في الأشرفية.
وباتت قيادة التيار تتصرّف كما لو أن الهيئة الحزبية في بيروت منحلة. أما التهم التي بسببها تقرر تجميد عضوية الثلاثة، فتتمحور حول مخالفة القرارات الحزبية في الانتخابات البلدية الأخيرة، التي لم يلتزم فيها عبس والهيئة بقرار القيادة التحالف مع تيار المستقبل ضمن لائحة «البيارتة».
كان عبس وتشاجيان يريان أن الصحناوي خالف النظام الداخلي للتيار، لناحية عدم العودة إلى الهيئة المحلية المنتخَبة في التحالفات واختيار المرشحين.
ويرى المقرّبون من عبس أن القرار يستهدفه شخصياً، بصفته المرشح الأبرز في الانتخابات الممهدة لاختيار المرشحين إلى الانتخابات النيابية المقبلة، وثقته بأن عملية التصويت الداخلي كانت ستُظهر حجمه التمثيلي الكبير في صفوف الحزبيين، في مقابل المرشحين المحسوبين على قيادة التيار، وعلى رأسهم الصحناوي.