كتب علي الحسيني في صحيفة “المستقبل”:
يوماً بعد يوم تتضح صورة الحرب السورية وأهدافها بشكل أكبر وأعمق، ومعها يتظهر سير المعارك التي يخوضها “حزب الله” وحلفاؤه من جيش النظام و”الحرس الثوري الإيراني” والميليشيات العراقية والأفغانية، وأسبابها في كل منطقة والنتائج العسكرية والميدانية التي يتم تحقيقها والتي تصب غالباً ضمن منهج تدمير الحجر وقتل أو تهجير البشر. وذلك لأسباب لها علاقة بالتوسع الديموغرافي الذي يسير عليه الحزب عن طريق قضم مساحات من الأراضي السورية إمّا عنوة، أو عن طريق حصارها وبالتالي اخضاع اصحابها لمبدأ، الأرض مقابل الغذاء.
بعد “القصير” و”الزبداني” و”مضايا”، حط “حزب الله” رحال سياسته التهجيرية واحتلال القرى في سوريا، في بلدة “داريّا” الواقعة في الجنوب الغربي من مدينة دمشق. في هذه البلدة التي لا يُعرف ليلها من نهارها من جرّاء القصف المركّز الذي تتعرض له على مدار الساعة من الأرض والجو، بدأ “حزب الله” ومعه النظام يوعزان للأهالي بضرورة إخلاء منازلهم والتوجه إلى خارج البلدة، أطفالاً ونساء وشيوخاً وذلك بعد اخضاعها لحصار مُستمر منذ خمس سنوات. وفي المعلومات أن “داريا” اليوم، أصبحت شبه خالية بعدما أفرغها الحزب من سكانها الذين خافوا من تعرضهم لحرب إبادة جماعية، في وقت لا يزال أكثر من الف ومئتي مقاتل من فصائل مسلحة مختلفة، يتحصنون فيها ويرفضون إخلاءها إلا من خلال إتفاق شامل يضمن سلامتهم وانتقالهم مع عائلاتهم باتجاه مناطق آمنة يُحددونها هم.
في ظل الحملات المدنية التي يُقيمها ناشطون في داخل سوريا وخارجها من أجل توجيه أنظار المجتمع العربي والدولي إلى الخطر الكبير الذي يواجه المدينة، طالبت جميع الفصائل الموجودة في محيط العاصمة السورية دمشق بالتحرك وفتح الجبهات لتشتيت حملة النظام و”حزب الله” على المدينة، كما طالب العديد من العلماء والدعاة في سوريا فصائل المعارضة المسلحة في درعا والجبهة الجنوبية بالتحرك وكسر الحصار عن المدينة، خشية تعرض ما تبقى من الأهالي والذين يُقدّر عددهم بثمانية آلاف، لإبادة جماعية خصوصاً أن للنظام السوري ثأراً على المدينة كونها من اولى المدن التي شهدت تظاهرات ضد نظام طاغية الشام.
من باب حرف الأنظار عن الجريمة التي يرتكبها “حزب الله” والنظام بحق مدنيي “داريا” من أطفال ونساء وشيوخ، يُصرّ إعلام الحزب على تحوير الحقائق تبريراً للجرائم التي يرتكبها، وذلك من خلال نشر معلومات تقول بأن المسلحين في “داريّا”، هم الذين يفرضون الحصار على الأهالي ويتحصنون بين المدنيين ويستعملونهم كدروع بشرية لقلب سير معركة ما زال الحزب يعد جمهوره منذ خمس سنوات بالإنتهاء منها. ويبدو أخيراً أن “حزب الله” أصبح على مرمى حجر من تحقيق هذا “الوعد الصادق” إذ لم يتبقّ سوى ثمانية آلاف مدنيّ تقريباً فيها عاجزون عن الحصول على طعام وماء ودواء، أقله للأطفال. لكن هل سأل الحزب نفسه عن التكلفة التي دفعها وما زال يدفعها من دماء الشبان وأرواحهم، للسيطرة على هذه المساحات الجغرافية؟.
المُستغرب هو، كيف لحزب يُفاخر بعقيدته الدينية وثقافته المبنية على إجتهادات وأفكار “الأئمة المعصومين” وبأدبياته القتالية، وله في هذا الشق أطروحات وكتابات استوحاها من خلال صراعه مع إسرائيل، أن يُمارس كل هذا الغلوّ والمُكابرة في تعاطيه مع شعب أعزل يصطف بالطوابير إستعداداً للموت من أجل كرامته ولكي لا تُنتهك أعراضه ولا تُدنّس أرضه بدخول الغزاة اليها. حزب يسمح لنفسه باحتلال الغير وهو الذي عانى الأمرّين لسنوات طويلة من الاحتلال والقهر والذل. حزب إدعى حماية “المقامات” والحدود والقرى، فإذ به يتحوّل إلى تاجر عقارات ومواد غذائية، يتحكم بالسعر وبالنوعية، وهو امر تشهد عليه “القلمون” و”الزبداني” و”مضايا”، واليوم “داريا” المُحاصرة.
ما يجري اليوم في “داريّا”، يُعتبر صورة مُصغّرة عما يُمكن أن تكون عليه سوريا في المستقبل في ظل الأطماع الإيرانية التي يُنفذ “حزب الله” سياستها التوسعية. عناصر من الحزب، يُشاهدون عن قرب حجم مأساة اجمعت المنظمات الحقوقية والانسانية في العالم، على أنها الأسوأ من بين الحروب كلها والأكثر ضرراً في نفوس عائلات تمنت القتل لأطفالها بدل أن تراهم يموتون من الجوع والعطش. لكن وحدهم قادة “حزب الله” لا يرون تغيّرا في بلد النكبات والجراح. وجملة “مافي شي بسوريا”، سمعها القاصي والداني، يوم كان “بركان” و”رعد” و”زلزال”، يغتالون أحلام الأطفال، ويوم حوّلت أسلحة النظام “الكيميائية” أجسادهم إلى الواح خشبية وأسماءهم إلى مُجرّد أرقام كُتبت على أكفانهم البيضاء.
الأكيد أن “حزب الله” والنظام، قد وضعا كل إمكاناتهما اللوجستية والعسكرية لإسقاط داريا وبالتالي ضمها الى المناطق التي تخضع لسلطتهما ومن ثم جعلها تحت وصاية الحزب بحسب الإتفاقات المُبرمة بين الاسد والإيرانيين. لكن المؤكد أنه وفي حال وقوع مواجهة بين الطرفين، فإن الحزب والنظام سيتكبدان خسائر كبيرة في العتاد والأرواح على غرار المعارك التي حصلت في “الزبداني” والتي سقط للحزب فيها فقط، أكثر من مئتي عنصر خلال أقل من شهرين.