على رغم اللهجة الصارمة لدول الاتّحاد الأوروبي تجاه بريطانيا ومُطالبتها بضرورة الإسراع في بدء مفاوضات الخروج، يبدو أنّ الحكومة البريطانية الجديدة برئاسة تيريزا ماي ليست في وارد التسرّع في الخروج بطريقة غير مُنظّمة. ستستغرق المرأة الحديدية في 10 داوننغ ستريت وفريق عملها وقتَهما في رسم معالم العلاقة الجديدة مع الإتحاد الأوروبي ودول أخرى، والتخطيط لمرحلة ما بعد الخروج بسياسة تُتيح لها التأقلم مع الواقع الجديد، حسبما يؤكّد السفير البريطاني في لبنان هيوغو شورتر لصحيفة ”الجمهورية”. وبالتالي حتى الساعة، لا يُمكن الحديث عن سياسة خارجية مُغايرة وتحالفات جديدة قبل تبيان الخيط الأبيض من الأسود. لبنانياً، يرى شورتر أنّ بلد الأرز لا يمكنه تحمّل الانتظار، والمطلوب انتخاب رئيس للجمهورية وعدم انتظار الخارج.الخروج يعني الخروج، عبارة يذكّر بها شورتر ليُجدّد التأكيد أنّ الحكومة البريطانية ستعمل على مغادرة الإتحاد الأوروبي والتوصّل الى أفضل اتفاق عبر المفاوضات مع الإتحاد ودول أخرى. مسألة ستستغرق وقتاً، وتتطلّب حتماً فترة من التأقلم على واقع جديد لدولة كانت عضواً في الاتحاد الأوروبي على مدار 34 سنة خلت.
ويقول شورتر لـ“الجمهورية”: “لا نريد الاستعجال والخروج بطريقة غير منظّمة. المملكة ستعمل للمغادرة بأفضل شروط، وستكون هناك فترة من المحادثات لتحديد علاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، وعلينا معرفة كيف ستتطوَّر الأمور، حتماً ستكون هناك فترة تأقلم ليس فقط للحكومة بل للإقتصاد أيضاً”.
مفاوضات لا شك في أنّها ستكون “مُعقّدة، لأنّها تغطي العديد من المجالات، لكن لا جدوى من التسرّع، ومن مصلحتنا ومصلحة دول الاتحاد أن نتوصّل إلى اتفاق دائم يُرضي الطرفين. وعلينا الإتفاق على نموذج التفاوض بشكل منظّم”.
وينصح شورتر من ينتقدون تعيين بوريس جونسون المُثير للجدل وزيراً للخارجية، بالنظر لما فَعله عندما كان عمدةَ لندن. ويقول: “لقد قام جونسون بجهد كبير لتعزيز الصورة الدولية لمدينة لندن، وجَذب الأعمال إليها، وبدل أن ينقّبوا عمّا يعتقدون أنّها أخطاء قام به، عليهم أن يحكموا عليه حسب سجِلّه الفعلي كوزير للخارجية، وأن يتذكّروا ما قام به على الصعيد الدولي”.
ويَرفض شورتر التعليق على تصريح وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير ليين بأنّ خروج بريطانيا سيُسهّل التعاونَ العسكري بين دول الاتحاد الأوروبي. ويقول: “نحن نغادر وملتزمون السياسة الأمنية والدفاعية للاتحاد الأوروبي، ونبقى لاعباً مهمّاً في حلف الأطلسي، وحالياً لدى الاتّحاد سياسة أمن خارجية مشتركة، وبريطانيا لاعب أساسيّ فيها”.
في الوقت عينه، لا يرى شورتر أنّ خروج بلاده سيسهّل حُكماً انضمامَ تركيا الى الاتّحاد الأوروبي. ويقول: “لطالما كنّا داعمين لعلاقات قوية بين الاتّحاد الأوروبي وتركيا، أمّا اليوم فلم يعُد بإمكاننا التعليق على ما ستكون عليه سياسة الاتحاد بعد مغادرتنا، لكنّ تركيا ستبقى شريكاً مهمّاً في سياستنا الخارجية”.
ويأمل شورتر أن يتناسبَ ردّ الحكومة التركية على منفّذي الانقلاب مع القيم الديموقراطية، ويذكّر بأنّ بلاده عارضَت الانقلاب ودَعت إلى حماية المؤسسات الديموقراطية، رافضاً الدخول في إمكانية ضلوع واشنطن بدعم الانقلابيين.
أمّا على صعيد العلاقة مع روسيا، فيرى من السابق لأوانه، التنبّؤ بكيفية تطوّرِها مستقبلياً. ويقول: “لم يمرّ سوى أيام على وجود الحكومة في السلطة، لقد سبقَ وعملنا بقرب مع روسيا في الملف النووي الإيراني والأزمة السورية، وأنا واثق بأنّ هذا العمل سيستمر”.
توازياً، يعتبر السفير البريطاني أنّ التعاون الدولي ضد الإرهاب يؤتي ثماره، على رغم موجة الهجمات التي طاولت كلّ من نيس وبروكسل وباريس واسطنبول، والقاع في لبنان. ويُشدّد على أنّ تنظيم “داعش” يخسر المزيد من الأراضي في سوريا والعراق، وإمداداتُ تمويله باتت تتراجع، فضلاً عن أنّ قيادة “داعش” ضُربت بقوة.
ويقول: “إذا نظرنا الى دول مثل لبنان وبريطانيا وفرنسا، نجد جهوداً محلية تُبذل لمكافحة الإرهاب، لكنّ الإرهاب لا يمكن مواجهته باستخدام إجراءات أمنية فقط، بل يتطلّب مواجهة إيديولوجية ضد الراديكالية”.
ويشبّه رَجلَ الأمن بحارس مرمى كرة القدم الذي لا يمكنه سوى التصدّي وليس المنع. ولا ينكِر السفير البريطاني أنّ الأزمات في الشرق الأوسط تساهم في تغذية الإرهاب، مؤكّداً أنّ بلاده تعمل جدّياً لحل هذه الأزمات المعقدة، وستواصل ذلك.
ويقول: “إنّ الإرهاب ظاهرة عالمية ومحلية، وما تفعله بريطانيا يمكن مشاركته مع دول أخرى، لكن لكلّ دولة خصوصية. فعلى سبيل المثال، تقوم الحكومة البريطانية بإجراءات استباقية لتقليص خطر الإرهاب ومنع الأشخاص من الجنوح نحو العنف والتطرّف بتحديد الفئات الضعيفة والأكثر عرضة للتطرّف من خلال مؤسسات التعليم والتدخّل من خلال خدمات اجتماعية، لتقليل المخاطر ووضعِهم على طريق آخر”.
ويؤكّد أنّ ظاهرة “الذئاب المنفردة” يَصعب التصدّي لها، ولكن من خلال العمل الوقائي وليس فقط الحماية يمكن تصعيب مهمّة الإرهابيين ومعرفة أهدافهم المحتملة.
ويقول: “الحلّ ليس فقط بتوجيه الضربات العسكرية التي يقوم بها التحالف الدولي، بل العمل لملاحقة الشبكات الإيديولوجية والفئات الضعيفة وتحسين التعاون بين الأجهزة الأمنية وتبادل المعلومات، وهي حملة ستستمر على مدار سنوات ولا يمكن توقّع نتائج فورية. نَعم يجب فعلُ المزيد، لكن لا يجب التقليل ممّا أنجِز حتى الآن”.
يرى شورتر أنّ فرَص نجاح المفاوضات السياسية في سوريا تتطلّب توافرَ ثلاثة شروط، وهي تعزيز وقفِ الأعمال العدائية، السَماح بإيصال المساعدات الإنسانية، واستعداد الأطراف التي ستأتي إلى طاولة المفاوضات لتتحدّث عن الفترة الانتقالية. هذه الشروط وضعَتها مجموعة الدعم الدولية لسوريا، “وحاليّاً لا إشارة إلى إمكان تحقيق تقدّم، لكن علينا الاستمرار في جهودنا”.
ويشدّد شورتر على أنّ “ما يمكن أن يقوم به الروس أو الاميركيون للمساعدة في تطبيق هذه الشروط يُعدّ أمراً إيجايباً”، رافضاً اتّهام بلاده بعدم الاكتراث لِما يجري في سوريا.
ويقول: منذ انطلاق “جنيف 2”، لا تزال بريطانيا مُنخرطة مع المعارضة المعتدلة، لكنّ العقبة بما يفعله النظام السوري وحلفاؤه على الأرض، ونحن نؤيّد هذه الشروط الثلاثة التي وضَعتها مجموعة الدعم الدولية. وكما حدثَ في جولة المفاوضات الأخيرة، لم يشجّع غياب هذه الشروط الثلاثة المعارضة السورية المعتدلة على القبول بأن تأخذ العملية السياسية مسارَها.
ويأمل شورتر أن يتمكّن المبعوث الأممي ستيفان دو ميستورا من التقدّم في أقرب وقت، “وإذا شعر الأميركيون والروس بإمكانية تحقيق شيء ملموس على المستوى الثنائي، نحن نرحّب بذلك، ولكن القول إنّ الأوروبيين ليسوا منخرطين فعلياً هو اختزال للجهود الديبلوماسية، وتقزيم للحوار الدولي”.
لبنانياً، يُطَمئن شورتر بأنّ دعم المملكة المتحدة للبنان مستمر، لأنّه في الأصل ثنائي ومباشَر، على رغم مساهمة بلاده في مشاريع مختلفة ضمن إطار الإتحاد الأوروبي. ويقول: “نحن مستمرّون في دعمنا لبرنامج الشراكة مع الجيش اللبناني تحت عنوان (تدريب وتجهيز) لإنشاء وتجهيز فوج الحدود البرّية الرابع، والعمل بالأبراج الحدودية مستمر”.
وأنفقَت المملكة المتّحدة منذ العام 2010، 34 مليون جنيه استرليني على تدريب وتجهيز الجيش اللبناني، 27 مليون منها لتجهيز أفواج الحدود البرّية الثلاثة في الجيش اللبناني التي تتولى مهمّة مراقبة الحدود لمنعِ تسلّل الإرهابيين والجماعات التكفيرية في سوريا إلى الداخل اللبناني.
توازياً، وقّعَت الحكومة البريطانية مذكّرة تفاهم لدعم عمل قوى الأمن الداخلي، بقيمة 13 مليون جنيه استرليني للسنوات الثلاث المقبلة، تشمل توسيعَ العمل لإنشاء الشرطة المجتمعية في كلّ أنحاء بيروت وخارجَها، على غرار مشروع مركز الشرطة النموذجي في رأس بيروت، وتدريب عناصر الشرطة للتعامل مع المجتمعات المحلية والإستجابة لاحتياجاتهم، وبناء قاعدة لجمعِ المعلومات بطريقة لا تنتهك حقوقَ الإنسان.
في الشقّ الإنساني، متابعة توصيات مؤتمر لندن للّاجئين السوريين ستكون عملية طويلة الأمد، يؤكّد شورتر، مذكّراً بأنّ بلاده قدّمت منذ العام 2011 ما مجموعُه 2.3 مليار جنيه استرليني.
ويقول: “في ما يتعلّق بالمانحين، نضَع كدولة مضيفة الضغط على من تعهّدوا للإيفاء بوعودهم، وليأتيَ المال الإضافي يجب أن يقابله تغيير على الأرض. من جانب الحكومة اللبنانية، التقدّم حاصل في مجال التعليم وعلى مستوى البلديات، وفي ما خصّ القروض التوافقية بفائدة منخفضة، لم يتمّ تسليمها في انتظار أن تُحدّد الحكومة وجهةَ استخدامها ومصادقة البرلمان عليها”.
وفي ظلّ تراجُع الاقتصاد اللبناني، “يزداد عدد اللبنانيين الذين ينضمّون الى سوق العمل ولا يجدون وظائف، ولا شكّ في أنّ اللاجئين هم عبء على لبنان، ولكن أيضاً غالبية الهبات يستفيد منها اللبنانيون أكثر من السوريين”، يتابع شورتر.
ولتقديم الخدمات إلى المجتمعات المضيفة وتنفيذ مشاريع تحسين البنية التحتية وتوفير فرص عمل للسوريين واللبنانيين، “هناك الكثير ينبغي فِعله لتحريك الدينامية الاقتصادية واتّخاذ عدد من القرارات لتحفيز المجتمع الدولي على الاستمرار في الدعم”.
ويقول: “تركيزنا على المجتمعات الضعيفة في البقاع وعكّار والجنوب، حيث نقوم ببناء خزّانات المياه وتنقيتها ودعم قطاع التعليم بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، والمملكة المتّحدة تساعد 49 بلدية بالتعاون مع وزارة الشؤون الإجتماعية وبرنامج الامم المتحدة الأنمائي”.
ويذكّر بالتعاون مع مؤسّسة “أديان” لمحاربة الراديكالية وتعزيز ثقافة التعايش، وبالزيارة الناجحة للمفتي عبد اللطيف دريان إلى المملكة المتحدة في آذار الماضي ولقائه شخصيات بريطانية رفيعة المستوى، منها أمير ويلز، حيث تمَّ البحث في دور قادةِ حوار الأديان في نشر الاعتدال والتسامح.
يأمل شورتر أن يكون هناك رئيس للبنان قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويقول: “أنا مُؤمن بقدرة اللبنانين على الحلّ من دون انتظار التطوّرات الخارجية، سواء الانتخابات الأميركية، أو غيرها، فالأشياء التي تحدث في الإقليم ستأخذ وقتاً وتحتاج سنوات للتقدّم. لبنان لا يمكنه تحمّل الانتظار”.
وإذ لا يُنكر وجود تدخّلات إقليمية في الانتخابات الرئاسية، يقول: “ربّما الوضع هذه المرّة يجب أن يكون مختلفاً. نحن نتحدّث الى الإيرانيين والسعوديين، ولكن لا يجب التحجّج بأنّهم لا يريدون الحلّ. قادة الأحزاب السياسية هم مسؤولون عن لبنان ومنتَخَبون من شعبه، وعليهم اتّخاذ القرار وليس انتظار أن يطلب الخارج ذلك”.
ويضيف: “هناك آليّة لحلّ الأزمة، وهي البرلمان الذي يجب أن ينعقد ويحضر النواب ويتمّ الإقتراع، على أن تسبقه مناقشات بين الأحزاب”.
ومن جملة الأسباب الضاغطة التي تُحتّم عدمَ التأخير في انتخاب رئيس، تآكُل مؤسسات الدولة وتراجع الاقتصاد، ووجود نحو مليون ونصف مليون لاجئ، والوضع الأمني المتوتر في لبنان وارتباطه بالوضع الإقليمي، وهو دليل جديد على ترابط القضايا، فهناك تحدّيات كبيرة، ولكنّ الأجهزة الأمنية قامت بعمل رائع لجهة تفكيك الشبكات وإحباط خطط الإرهابيين، يَختم السفير البريطاني.