كتبت ربي منذر في صحيفة “الجمهورية”:
لم يجد أبناءُ القاع طريقةً أفضل لإهانة الإرهابيين ودفنِهم مرّةً أخرى إلّا من خلال إظهارهم حبّاً للحياة التي حاولَ أولئك قتلَها. والقاعيّون الذين لهم تاريخ مع شفيع البلدة مار الياس، وجَدوا في مناسبة عيدِه، اليومَ الأنسب لشكرِه ولإيصال رسالة صمودِهم وعدمِ تركِهم للأرض، فأقاموا وقفةً تضامنية بعنوان “يوم التضامن مع القاع” في ساحة كنيسة مار الياس، لرفعِ الصوت عالياً ضد الإرهاب، ولتقديم العزاء لأهالي الشهداء، والتضامن مع الجرحى، ولإعادة الحياة والفرح للبلدة.لم يكن أبناء القاع على معرفة بأنّ هؤلاء إرهابيون، لم يكونوا يوماً على صداقة معهم أو عداوة، ولو رأوا أحدَهم بحاجة لمساعدةٍ ما، قبل التفجيرات لساعدوه، هكذا هم وهذه طبيعتهم.
واليوم أيضاً لا يريدون معرفة أيّ معلومة عن المجرمين، فهم أصبَحوا في عداد الموتى جسدياً بعدما ماتت أرواحهم منذ التحقوا بالإرهاب، وعدالة السماء التي لطالما آمنَ القاعيون بها ستأخذ حقّهم. أمّا الكُره الذي بحثّ عنه الإرهابيون من خلال عملِهم فلن ينالوه من القاعيين، لأنّ هؤلاء قرّروا تجاهلَهم ليموتوا كلّ يوم ألف مرّة.
صحيح أنّ أهالي القاع دُمّروا بالحزن يوم التفجير، وهو نصرٌ صغير حقّقه الإرهابيون، إلّا أنّ ذلك كان موَقّتاً، إذ إنّهم أيقنوا أنّهم سيجتمعون مع شهدائهم مرّةً أخرى في جنّة النفوس الحرة التي لن يستطيع الإرهابيون دوسَها، وإبّان ذلك، سيفرَحون وسيحبّون الحياة أكثر وأكثر.
لم يُسمَّ مار الياس شفيعَ البلدة صدفةً، فله معها تاريخٌ طويل من الشفاعة والحماية، فيُحكى أنّه يوم 1 تمّوز من عام 1975 شُنّ هجومٌ على البلدة عند الساعة الرابعة بعد الظهر، فيما كان الأهالي في أشغالهم وفي الحقول، وأتى المهاجمون من كافة الاتجاهات، ونصَبوا مدافعَ هاون قرب الكنيسة وفي مواقع عدّة، فيما لم يكن لدى أبناء القاع سوى بنادق صيد، لكن ما حصَل هو أنّ كلّ ما قصَفه المهاجمون آنذاك ارتدَّ عليهم، وكلّ القذائف التي سَقطت بين المنازل لم تنفجر، وكانت الحصيلة 7 شهداء قاعيين مقابل المئات من المهاجمين.
وتقول الروايات التي عادت إلى الأذهان بعد التفجيرات الأخيرة، أنّ المهاجمين تناقلوا أخباراً مفادُها أنّ مقاتلَين كانا يحاربانهم على الخيلِ بالسيف، وأنّ نهراً قويّاً من المياه منَعهم من دخول البلدة، وهو ما لم يرَه أهل البلدة من جهتهم، في وقتٍ يرجّحون أنّ المقاتلَين كانا مار الياس ومار جرجس، وهما من حميَا البلدة.
هذه الرواية عادت وكرّرَت نفسَها يوم التفجيرات الإرهابية وإنْ بطريقة مغايرة، فالمعروف أنّ تفجير 8 انتحاريين يوقع مجازر، إلّا أنّ هذا الأمر لم يحصل في القاع. ويَشهد الأهالي الذين عايَشوا تفجيرات المساء أنّ عدداً من الانتحاريين ضغَطوا على أزرار التفجير مرّات عدة من دون أن ينفجروا، وأنّ تمثال مار الياس الذي حصَلت بعض التفجيرات المسائية على بُعد نحو مترين منه، لم يُخدَش حتى.
وفي سياق محاربة الإرهاب بالأفراح، أحيا أمس عددٌ كبير من الفنّانين يوماً تضامنياً مع بلدة القاع، حيث أُلقيَت الكلمات، وكان هناك ترنيمةٌ جماعية أنشَدها الفنّانون، وأكّد رئيس بلدية القاع المحامي بشير مطر لـ”الجمهورية” أنّ “الرسالة من هذا النشاط هي التشديد على أنّنا سنتحدّى الإرهاب بالفنّ، بالثقافة وبالفرح، مثلما تحدّيناه بالسلاح”.
إذاً، عادت الحياة لبلدة القاع، ليس لأنّها نسيَت شهداءَها، بل لأنّهم طلبوا من أهاليهم أن يأخذوا بثأرهم من خلال حبّهم للحياة، فكان لهم ما أرادوا، فأهانوا الإرهابيين أمس من خلال نشاطهم، وسيهينونهم في كلّ مرّة سيغنّون، في كلّ مرّة سيرقصون، في كلّ مرّة سيصلّون، ببساطة، سيهينونهم بسعادتهم.