كتب عماد مرمل في صحيفة “السفير”:
يتقلّب الطقس في موسكو هذه الأيام. صحيح أنّ الحرارة المرتفعة هي السمة الغالبة، لكن عليك دائمًا أن تتحسب لمفاجآت مناخية من نوع هطول المطر الغزير، على حين غرّة، مترافقا مع المؤثرات السمعية والبصرية من برق ورعد، قبل ان يعود الهدوء مجددا، “متأبطا” أشعة الشمس.
وبرغم الشوارع الفسيحة، إلا أنّ زحمة السير ترافقك في تنقلاتك، وتبث فيك شعورًا بالعزاء: ها هي دولة عظمى تعاني من عوارض الازمة المرورية ذاتها التي تواجه لبنان المصاب بالشلل المؤسّساتي والشغور الرئاسي.
في مبنى وزارة الخارجية الذي يعكس هيبة الديبلوماسية الروسية تزدحم الملفات الدولية والاقليمية، ومنها ملف الشرق الأوسط الذي يتفرّع منه العنوان اللبناني، الحاضر بظلاله المتعدّدة.
وإذا كانت السياسة الخارجية المعلنة لموسكو حيال الاستحقاق الرئاسي تميل الى التمسك بالعموميات الكلاسيكية، من قبيل التأكيد أنّ موسكو ليس لديها مرشح ولا تضع “فيتو” على أحد وان الاولوية عندها هي لمبدأ انتخاب رئيس الجمهورية، غير أنّ التوغل في الكواليس يسمح بالتقاط تفاصيل تفيد في تظهير الموقف الروسي بشكل أدق.
ويؤكد مسؤولون كبار في الخارجية الروسية، خلال مداولات ولقاءات مغلقة، أنّ اصرارهم على الاسراع في انتخاب الرئيس المسيحي للجمهورية اللبنانية “إنما يندرج في سياق حرصهم على حماية الوجود المسيحي في المنطقة وتثبيته”، آخذين على الغرب انه يهدد بسياساته هذا الوجود، خصوصا لجهة التسهيلات التي يقدمها للراغبين في الهجرة، “في حين نحث نحن المسيحيين على البقاء في ارضهم والتجذر فيها”.
تتعامل موسكو مع ترشيح الرئيس سعد الحريري للنائب سليمان فرنجية باعتباره “فرصة ثمينة لإنهاء أزمة الشغور الرئاسي”، مع اهتمامها في الوقت نفسه بعدم استفزاز العماد ميشال عون، الى جانب الإشادة بقرار الحريري التخلي عن خيار “الترشيح المستحيل” لرئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي تبدو “العواطف السياسية” حياله باردة في موسكو.
وخلال اجتماع عُقد قبل فترة بين نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص للرئيس الروسي الى الشرق الاوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف وإحدى الشخصيات الديبلوماسية اللبنانية، كان المسؤول الروسي واضحا في كلامه: “ترشيح النائب سليمان فرنجية كسر حالة الجمود السياسي، وهو يشكل فرصة يجب انتهازها من دون إبطاء لانتخاب رئيس الجمهورية، خصوصًا أنّها قد لا تتكرر، ولا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يحصل في المستقبل”.
ويشير بوغدانوف الى أنّ فرنجية مقرب من الرئيس السوري بشار الاسد ومن “حزب الله”، “وبالتالي ليس مفهوما كيف أنّ فريق “8 آذار” لا يؤيّد انتخابه”. وهناك في الدوائر الديبلوماسية الروسية من يتساءل عن “الأسباب الخفية” ـ وفق التعبير الحرفي الوارد في أحد المحاضر ـ التي تدفع الحزب الى عدم دعم وصول فرنجية الى الرئاسة.
وبرغم حماسة موسكو لترشيح فرنجية، إلا أنّها تحاول في الوقت نفسه أن تتجنّب إغضاب عون أو توتير العلاقة معه. ويُنقل عن بوغدانوف قوله في هذا المجال: نحن لا نعارض الجنرال، ولو استطاع ان يحقق توافقا وطنيا حول ترشيحه لكنا قد باركنا انتخابه، لكنه لم يفلح طيلة الفترة الماضية في الحصول على دعم الحريري وتأمين الاكثرية المطلوبة التي تسمح بوصوله الى رئاسة الجمهورية، ولا نعرف حتى ما إذا كانت كل أطراف 8 آذار معه، وهنا الفارق بينه وبين فرنجية الذي استطاع ان ينال تأييدا من 8 و14 آذار، ولذلك نعتقد ان الافضلية باتت له.
ويضيف بوغدانوف، وفق ما يُنسب اليه: “لا يجوز أن يستمر الشغور الرئاسي، وبمستطاع العماد عون أن يكون صانع الملوك”.
ولئن كان الروس يعتبرون بعد حصر المعركة الرئاسية بكل من عون وفرنجية ان مسؤولية تسهيل الانتخابات الرئاسية أصبحت ملقاة على عاتق ايران، لا السعودية.
على صعيد آخر، تبدي موسكو استعدادا لتزويد الجيش اللبناني بالسلاح سريعا، بموجب اسعار مُناسبة للجانبين، في حين ان الهبات العسكرية ليست واردة حاليا في الحسابات الروسية، ربطا بحساسية الوضع الاقتصادي، كما يؤكد المطلعون على موقف روسيا.
أما الزيارة المؤجلة للرئيس نبيه بري الى موسكو، فان حصولها ينتظر ترتيب موعد بينه وبين الرئيس فلاديمير بوتين بعد إزالة العوائق البروتوكولية التي لا تزال تؤخر الاجتماع.
وهذا الامر كان موضع بحث في لقاء غير رسمي جمع مسؤولا روسيا مع ديبلوماسي لبناني سأل عن سر تجاوز بوتين لقواعد البروتوكول باستقباله مرات عدة الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، بينما يتمسك بها في حالات أخرى، فأتاه الجواب على الشكل الآتي: “ان بوتين يستقبل الحريري تقديرا منه للدور الذي أداه والده الرئيس رفيق الحريري في الماضي على مستوى إعادة إحياء العلاقات بين روسيا وبعض دول المؤتمر الاسلامي كماليزيا وباكستان، إضافة الى خصوصية البعد السعودي في موقع سعد الحريري..”.
يوضح أحد المقربين من عون ان الرابية مطلعة على حيثيات هذه المقاربة الروسية التي كانت تفترض ان معادلة سليمان فرنجية (رئيسا للجمهورية) ـ سعد الحريري (رئيسا للحكومة) يمكن ان تضمن مصالح روسيا السياسية والاقتصادية، وتحقق تعايشا بين السنة والشيعة والمسيحيين.
لكن المصدر الوثيق الصلة بـ”الجنرال” يلفت الانتباه الى ان الطرح الروسي قابل للتطور في اتجاه التعامل بإيجابية مع ترشيح عون، انطلاقا من الوقائع المستجدة في الميدان والسياسة، والمرشحة للتفاعل في المرحلة المقبلة، مشيرا الى ان موسكو التي تعلق أهمية على معركة حلب وتشارك فيها، بالتنسيق مع سوريا و “حزب الله” وإيران، ستصبح أكثر تفهما لمقتضيات خيار حلفائها بدعم انتخاب عون رئيسا للجمهورية، وبالتالي فالارجح انها ستسعى الى تجنب أي تعارض او خلاف إضافي معهما في الشأن الرئاسي اللبناني، لاسيما بعد التباينات التي ظهرت مؤخرا في أعقاب المشاركة الروسية في رعاية الهدنة السابقة في حلب والتي سمحت للمسلحين بان يلتقطوا أنفاسهم بعدما كان الجيش السوري وحلفاؤه يتقدمون على الارض بوتيرة متسارعة.
العامل الآخر الذي تراهن عليه الرابية لتعديل الاحداثيات الرئاسية الروسية، يتعلق وفق المصدر البرتقالي البارز، بالنقاش المتقدم الدائر في داخل “تيار المستقبل” حول إمكان تبني عون رئاسيا، بحيث ان الروس لن يكونوا ـ برأيه ـ ملكيين أكثر من الملك ولن يتشبثوا بفرنجية على حساب عون، ما دام ان من رشح الاول بات مستعدا للبحث في دعم الثاني.
وبناء على ما سبق، يستنتج المصدر ان هناك انكفاء روسيا عن المسرح الرئاسي اللبناني حاليا، في انتظار انقشاع الضباب الاقليمي.