كتبت هديل فرفور في صحيفة “الأخبار”:
البداية في جبشيت (قضاء النبطية) الجنوبية. نحو ساعة مضت على موعد صلاة الجمعة. أصواتٌ صاخبة تنبعث من «كافيه أبو عرب»، المواجه لمبنى البلدية، هذا الصخب «يُهشّم» سكينة الشارع في هذا الوقت من النهار.
من يدخل «الكافيه»، يُدرك أن توصيف المقهى لا ينطبق عليه تماماً. هو أشبه بما يسميه الناس «إكسبرس» موسّع، يستضيف شبّاناً يهوون ألعاب الـ»بلاي ستايشن». غالبية هؤلاء كانوا يلعبون (بِشغفٍ واضح) منذ ما قبل موعد الصلاة، حسبما قالوا، بمعنى أنهم لم يتوقفوا عن اللعب ولم يقفل المقهى في الاوقات التي حددتها البلدية.
يرمق روّاد المكان «زائرته» باستغراب. لا ترتبط هذه النظرات بكون الزائرة «غريبة» عن البلدة، بل بـ»جنس» الزائرة: دخول الفتيات الى هذا «النوع» من المقاهي مُستغرب في البلدة، وهذا ما يجعل قرارات بلدية جبشيت مستغربة، فلماذا تصرّ على منع «اختلاط» لا يحصل بين الجنسين في مثل هذه المقاهي «الذكورية»؟ يبدو الأمر إمعاناً في «تمييز جنسي» قائم أصلاً في الواقع.
«مين البنت اللي بدها تيجي تلعب mortal kombat أو counter strike (أسماء ألعاب الفيديو)؟»، يتساءل علي حدرج، صاحب المقهى، ردّاً على سؤاله عن مدى التزامه ببند «مراعاة عدم اختلاط الذكور والإناث»، الذي فرضته بلدية جبشيت على أصحاب محال «التسلية والكومبيوتر» في قرارها المُتخذ في التاسع من تموز الحالي.
كانت البلدية قد عمّمت على أصحاب محال «التسلية والكمبيوتر» قراراً يحوي 7 بنود طالبتهم بالالتزام بها «حرصاً منها على راحة أبناء البلدة، ومراعاة للجانب الشرعي والأخلاقي». نعم، رأت البلدية أن صلاحياتها تنطوي على مراعاة الجانب «الشرعي».
من هذه البنود: الإقفال في أوقات الصلاة لمدة نصف ساعة. الإقفال يوم الجمعة من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى انتهاء الصلاة. عدم بيع أو تداول الأقراص المرنة غير الأخلاقية والإباحية. مراعاة عدم اختلاط الذكور والإناث.
تساؤل صاحب المقهى عن «الفتاة» التي سترتاد مقهاه، ينطلق من رغبته في «التبخيس» من «الضجّة» التي أثارها القرار. المسألة بالنسبة اليه منتهية، فالفتيات لا يدخلن المقهى في الاصل، وبالتالي هو ليس مهتماً بالقرار الذي يُشّكل تجاوزاً لصلاحيات البلدية ويتعرض للحريات الشخصية المصونة في الدستور. لا تقتصر رغبة «التبخيس» على «منع الاختلاط بين الجنسين»، بل تطال بند الالتزام بـ»الإقفال يوم الجمعة»، يقول حدرج: «منيح إنك شايفة بعينك، الشبيبة هون ما تكنّسوا (لم يُغادروا المكان) من الصبح».
يستقطب الحديث مع حدرج عدداً من أبناء الحي. «أنتِ هنا للحديث عن القرار الداعشي أيضاً؟»، يسأل أحد أصحاب المحال المُجاورة بسخرية، في إشارة الى كثرة زيارات «الإعلام» لبلدة جبشيت بعد قرار البلدية، ووصفه أنه «داعشي». يرفض هؤلاء هذه المُقاربة رفضاً قاطعاً. يرون أنها مهينة لهم. يقول عماد، الرجل الخمسيني، «نحن متدينون ولكننا لا نرضى بمطاوعين». هذه الجملة تختزل مواقف غالبية الأهالي؛ هم يحترمون الفرائض والواجبات الدينية والعادات والتقاليد، ولكنهم يرفضون فرضها بقرار بلدي. يميل معظمهم الى موقف «دفاعي» كردّ فعل على طريقة تناولهم في الاعلام. يتحدث حسين فحص، وهو كان مرشحاً ضد اللائحة التي فازت بالانتخابات البلدية، عن الفوضى التي كان يُحدثها روّاد المحال. ويُسارع حسّان، شرطي البلدية، للقول: «ما حدا من الأهالي بيقبل بنتو تسمع الحديث اللي من الزنار والنازل (حديث بذيء)». لكنه يستطرد: «بس إذا شفت بنت هون عم تعمل بحث على الانترنت، بسكّر المحل يعني؟ أكيد لأ». نسأل الشرطي البلدي إذا كان سيسطّر محاضر الضد بحق المحال المفتوحة أوقات الصلاة؟ «بالطبع لا»، يُجيب حسّان. يُقاطعه شابٌ يافع بالقول: «لا يستطيع».
يوضح النائب والمحامي غسان مخيبر أن هذه القرارات غير مُسندة إلى قوانين. ويرى أن هذه الإجراءات تطال حرية أساسية من حريات الأشخاص. يشير مخيبر الى أن مواعيد إقفال المحال متعلقة بحرية التجارة، «وفي لبنان لا يوجد قانون ينظم دوام التاجر ويحدد له مواعيد افتتاح محاله».
تقول الأستاذة الجامعية في علم النفس الاجتماعي رجاء مكي إن البلدية هي وجه من وجوه السلطة التي تسعى الى القيام بتدخلات اجتماعية، وعلى الرغم من أن مهمة التدخّل تبدو سهلة كونها (البلدية) أداة اجتماعية تستمد دورها من تأييد الناس لها، لكن تطبيق هذا التدخل يغدو صعباً. بمعنى أوضح، تلفت مكي الى أن «البلدية لا تستطيع أن تفرض الأفكار التي تقولها أو تنادي بها (لو كانت هذه الأفكار تلقى صدى عند غالبية الناس)، خصوصاً إذا كانت هذه الأفكار قمعية وتفرض قيوداً على توجهات شبابية جديدة وخارجة عما ألفته «الضيعة».
تنطلق مكي من هذه النقطة لتشير الى أن المجتمع الجنوبي لا يستطيع إلغاء التغييرات التي فرضتها وسائل التواصل الجديدة وظروف الاحتكاك مع المجتمعات الأخرى بشكل جذري، لكنّه يسعى الى التمسّك بـ»ضبطها».
وتُضيف: «ظاهرياً، سيرفض المجتمع الجنوبي الاختلاط وعدم الالتزام بالصلاة وغيرها، ولكن باطنياً هو يتقبّلها ويرفض فرضها.
من هنا، لاقى قرار بلدية عيترون الرامي الى منع الاختلاط في المسبح الشعبي للبلدة اعتراضات من قبل الأهالي، ما دفع المجلس البلدي الى التراجع عنه و»عودة الامور الى ما كانت عليه»، على حدّ تعبير مصادر في المجلس البلدي. ومن هنا أيضاً، شاركت نحو 13 فتاة من بلدة الخيام الجنوبية في «ماراتون حرمون» بحسب رئيسة الجمعية عايدة جمعة، أول من أمس، بالرغم من قرار رئيس بلدية الخيام عدم دعم الفتيات المُشاركات واقتصار دعم البلدية لـ»الرياضيين (الذكور) في البلدة»، وذلك «حفاظاً على بناتنا»، وفق ما قال لـ»الأخبار». الاعتراضات على منع الاختلاط في المسبح الشعبي في عيترون جاءت بالرغم من التأييد «شبه المُطلق» لغالبية سكان البلدة لمبدأ «الحفاظ على التقاليد».
تقول زينب، الشابة التي تعمل في أحد المحال التجارية في عيترون، إنه لا توجد فتاة في الضيعة «بتقبل تنزل على الماي قدّام الشباب»، مُشيرة الى أن هذا القرار من شأنه أن يُنظّم مسألة الدوامات ويُخفّف الضغط على المسبح. لكنها تستطرد: إذا كان هدف البلدية أن تفرض جواً إسلامياً على البلدة، فهو مرفوض، يجب أن يكون الهدف تنظيمياً ويراعي عاداتنا فقط.
لا تُعدّ شهادة زينب مُتناقضة. الفتاة، كما الكثير من أهل الضيعة هنا، «يستسيغون» قرار منع الاختلاط بهدف «الحفاظ على العادات»، لكنهم يرفضون اتخاذ قرارات «تجلب لأهل الضيعة الصيت المُنفّر»، على حدّ تعبير أحد الشبان. يقول مختار البلدة حسيب فقيه لـ»الأخبار» إنه ضد منع الاختلاط، لافتاً الى أنه لم تكن مسألة الاختلاط واردة بطبيعة الحال، ذلك أن «بنات الضيعة اللواتي يردن السباحة يذهبن الى المسابح النسائية المجاورة». بحسب فقيه، من «ضخّم» الاقتراح شخص «يُريد إحداث شرخ في الضيعة».
وهنا العودة الى «الخلاصة» نفسها، هذه القرارات هي التي تحدث شرخاً في البلدات. تقول رجاء مكي إن المجتمع الجنوبي يسعى حالياً الى التوازن بين قيوده وما يعتبره «نزوات»، لافتة الى أن الشاب (المقصود العنصر الشاب) الجنوبي سيسعى الى التوصل الى توازن «الرغبة» و»الحظر»، لذلك سنراه يميل الى موقف ثنائي يرضي جميع الفئات الاجتماعية.