Site icon IMLebanon

طرابلس وتركيا.. “تمام أفندم”

 

 

كتب غسان ريفي في صحيفة “السفير”:

لا تشكل الأعلام التركية المرفوعة في مختلف مناطق طرابلس استفزازاً لأي كان من أبناء المدينة، ولا تُحسب في إطار ازدواجية الولاء السياسي أو الوطني للطرابلسيين، بل هي تعبر عن تماهي شارع لبناني سني عريض مع تركيا، قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة وبعده، فكيف مع التي تربطها تاريخياً قواسم مشتركة مع تركيا، بدءاً بعهد المماليك مروراً بالسلطنة العثمانية وصولاً الى حكم «العدالة والتنمية» بزعامة رجب طيب أردوغان.

ويشهد تاريخ طرابلس أنها تحركت شعبياً دعماً للسلطنة العثمانية وقاتل الطرابلسيون الى جانبها ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وتحديداً في معركة «جن قلعة» في تركيا. طرابلس نفسها انتصرت لثورة المجاهد عمر المختار في ليبيا بوجه الاستعمار الايطالي، ولثورة الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي، إضافة الى طليعيتها في المناداة بالوحدة العربية ورفض الانسلاخ عن سوريا، الى النضال ضد الانتداب الفرنسي وتقديم الشهداء تحت جنازير الدبابات، الى تأسيس «جيش الإنقاذ» بقيادة إبن طرابلس المناضل فوزي القاوقجي للدفاع عن فلسطين في نهاية أربعينيات القرن الماضي.

وتجد في طرابلس جمعيات تهتم بالعلاقات التركية ـ اللبنانية، وكان لها الفضل بفتح الأبواب أمام ابناء المدينة الراغبين بنيل التعليم العالي في الجامعات التركية، كما كان لها دور مميز في تنشيط مؤسسات تركية في لبنان كالمركز الثقافي التركي في بيروت.

استفادت بلدية طرابلس من واقع العلاقات التركية اللبنانية المميزة، فأقامت خلال السنوات العشر الماضية علاقات توأمة مع مدن: إسطمبول، كاتشي أوران، قونيا الكبرى، غازي عنتاب، بورصا، كما انضمّت الى اتحاد بلديات العالم التركي.

وتشير الإحصاءات الى أن عدد الطرابلسيين الذين يحملون الجنسية التركية هم مئة شخص انتخب إثنان منهم في مجلس بلدية طرابلس في الانتخابات الأخيرة.

وهناك المئات من العائلات تحمل الجنسية التركية لكنها لا تتواصل مع السفارة التركية في بيروت (غير مسجلة في لوائحها)، إضافة الى مئات العائلات التي تسعى لاسترداد الجنسية التركية، كما يوجد أكثر من 300 طالب طرابلسي في تركيا، وهناك مثلهم تخرّجوا من جامعاتها ومعاهدها في السنوات الأخيرة.

لم تكن العلاقة التاريخية بين طرابلس وتركيا محصورة بالحقبة العثمانية فقط، بل هي بدأت في عهد المماليك حيث كانت المدينة مركزاً لنائب السلطان الذي كان مقرّه في مصر.

ويتحدّر المماليك من العرق التركي، وكانت سلطنتهم حليفة للدولة السلجوقية التي كانت تحكم تركيا، لذلك فإن أكثرية نواب السلاطين الذين حكموا طرابلس هم من أصول تركية ويحملون أسماء تركية مثل: إسندمر الكرجي (باني محلة السويقة)، عز الدين أيبك (باني حمام عز الدين)، شهاب الدين قرطاي (باني سوق العطارين وجامع القرطاوية)، سيف الدين طينال (باني جامع طينال)، أرغون شاه (باني جامع أرغون شاه).

وعمل العثمانيون على تطبيع العلاقات مع طرابلس التي كانت لها مكانة كبرى لدى كل سلاطين بني عثمان، فحوّلها هؤلاء الى مركز دائم للولاية (مركز إقامة الوالي العثماني) لكونها كانت ترفد كل ولايات السلطنة بالمفتين والمشايخ والأطباء والخبراء في المجالات العلمية، كما كانت ترفدها بالصناعات المختلفة.

وثمة روايات تقول إن «حريم السلطان» العثماني كنّ يطلبن الصابون الطرابلسي الفوّاح، فيصار الى نقله بباخرة عثمانية خاصة من الميناء في لبنان الى اسطنبول في تركيا.

وندر أن تجد عائلات طرابلسية تقليدية لا جذور عثمانية لها، إذ تشير المعلومات التاريخية الى أن الكثيرين من أبناء طرابلس تبوأوا مراكز هامة في دوائر السلاطين، وحملت عائلاتهم أسماء المناصب التي شغلوها، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، في المجال العسكري، عائلات: سنجقدار، بيرقدار وجبخانجي. وفي المجال الإداري، عائلات: خزندار، تحصلدار، دفتردار، وفي المجال المهني، عائلات: صابونجي، كندرجي، قندقجي، خانجي، خربطلي، لاذقاني، اسكلمجي، سبقجي، وفي المجال الديني، عائلات: مولوي (تعود الى مولانا جلال الدين الرومي مؤسس الطريقة المولوية في قونيا)، الدرويش، النقشبندي، الشلبي، الولي، ولي الدين، علم الدين إضافة الى عائلة سلطان التي تُنسب مباشرة الى السلاطين، حتى أن هناك مَن ينسب جمال بعض العائلات (العيون الزرق والشعر الأشقر) إلى الأصول التركية المطعمة.

وشهدت طرابلس خلال العهد العثماني قيام السلاطين بإرسال أشخاص من مدن تركية الى طرابلس للقيام بمهمات مختلفة، وما لبثوا أن أقاموا في المدينة واستقروا فيها وحملت عائلاتهم أسماء المدن التي أتوا منها وفي مقدمة هذه العائلات: مرعشلي (مدينة مرعش)، إسطمبولي وإسلامبولي (إسطمبول)، إزمرلي (إزمير)، عنتبلي (غازي عنتاب)، أورفلي (أورفا)، أفيوني (أفيون).

ومنحت السلطنة العثمانية عائلات طرابلسية ولبنانية مختلفة ألقاباً عدة، فنسب آل الميقاتي في طرابلس يعود الى «المشايخ المؤقتين» الذين كلفهم السلطان العثماني بمواقيت الصلاة في الجامع المنصوري الكبير، إضافة الى لقب «أفندي» الذي أُعطي لآل كرامي، ولقب «بيك» لعائلات: المرعبي وعلم الدين وحمزة وغيرهم ممن خلع عليهم السلطان العثماني لقب «شيخ» وأكثرهم من جبل لبنان (موارنة) أو باشا أو غير ذلك.

لم ينته الترابط بين طرابلس وتركيا عند هذا الحد، بل إن السلطان العثماني اختار طرابلس مع مدن أخرى لإسكان المهاجرين من جزيرة كريت بعد سقوطها بيد اليونانيين، حيث يوجد حي المهاجرين في التبانة لغاية الآن، ومن أبرز العائلات التي جاءت من كريت واستقرت في طرابلس: بكراكي، قبضاكي، سقلاكي، قبلاكي وغيرهم.

وثمّة مَن وفد مطلع القرن الماضي الى طرابلس من بلدة ماردين التركية بحثاً عن فرصة عمل، ويعرفون اليوم بـ «المردلية»، وهم أقاموا في طرابلس وأصبحوا من نسيجها الاجتماعي ويعدون اليوم بالآلاف وبعضهم يسعى الى استعادة الجنسية التركية من خلال الحصول على بطاقات الهوية من أقاربهم في «ماردين»، شرط أن تحمل اسم الجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك، ومن أبرز هذه العائلات: الماردلي، إبراهيم، مقصود، شيخو، عمران، مراد، خلف، العلي حيدر، حسن وغيرهم.

كما أن لـ «التركمان» الذين أرسلهم السلاطين لحماية أراضي السلطنة حضور في طرابلس وهم من أصول عثمانية صرفة، ومن أبرز عائلاتهم: تركماني، تركي والترك، والأكثرية الساحقة منهم تتمركز في بلدتي عيدمون والكواشرة في عكار، وهاتان البلدتان توليهما الحكومة التركية اهتماماً خاصاً ومباشراً على صعيد المشاريع التنموية.

هذه العلاقات التاريخية تجعل طرابلس على تماس مباشر ودائم مع تركيا، خصوصاً بعد إلغاء تأشيرة السفر بين لبنان وتركيا، الأمر الذي شجّع الكثير من أبناء طرابلس الى زيارة تركيا والتفتيش عن جذورهم التي يتحدّرون منها، فضلاً عن سعي بعضهم لتعلم اللغة التركية، ومن ثم خطوة مبادرة الحكومة التركية الى منح الجنسية التركية الاستثنائية لمن يستحقها من الشخصيات التي لها تاريخ في خدمة الثقافة التركية.

ويقول مؤسس جمعية الصداقة اللبنانية ـ التركية، عضو مجلس بلدية طرابلس الدكتور خالد تدمري لـ «السفير» إن العلاقة مع تركيا تاريخية، وهي لا تدعو الى القلق لجهة استعادة نفوذها العثماني لا في طرابلس ولا في أي منطقة لبنانية، «ونحن نسعى للاستفادة من العلاقات مع تركيا من أجل تمويل العديد من المشاريع، وكان أبرزها ما قامت به مؤسسة «تيكا» لجهة ترميم التكية المولوية، وساعة عبد الحميد في ساحة التل».

ويؤكد تدمري أن كل الطرابلسيين الأتراك وغير الأتراك يسعون الى تعزيز التواصل مع تركيا، وأن ولاءهم أولاً وأخيراً للبنان، ولكن كما كل اللبنانيين يبحثون بعاطفتهم دائماً عن زعيم أو رمز، لذلك فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتمتع بشعبية واسعة في طرابلس التي عبرت عنها إثر فشل الانقلاب الأخير (أداء الصلاة في ساحات المدينة والتكبير ورفع الصور واللافتات).

ويقول مؤسس الجمعية اللبنانية ـ التركية الدكتور زاهر سلطان إن تعاطف طرابلس مع تركيا نابع من التاريخ والثقافة والحياة المشتركة، وقد تضاعف بسبب التعليم والانفتاح والتواصل الذي يتنامى يوماً بعد يوم.