Site icon IMLebanon

“مخيم المخيمات”.. عين الحلوة: الأمن قبل الرغيف

 

 

كتبت سعدى علّوه في صحيفة “السفير”:

حبذا لو ينتقل المتحاورون الى مخيم عين الحلوة، أو الى أي منطقة لبنانية نائية، أو الى أي مخيم من مخيمات النزوح السوري، حتى يكتشفوا، بالعين المجردة، أن القاسم المشترك بين هؤلاء جميعا، هو الهجرة من لبنان.

عندما تدخل مخيم اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة للمرة الأولى، تبدو كاميرات المراقبة الحديثة المثبتة في زواريب المخيم غريبة عن المكان الغارق بالحفريات وببيوت اسمنتية أو من تنك، مهددة في معظمها بالانهيار، ومعها غرف مرصوصة فوق بعضها البعض وناس وباعة تضيق بهم الأزقة.

أجهزة المراقبة لا تشبه يوميات القاطنين المحكومين بأذونات الترميم والبناء وكلفتهما في المكان الأكثر كثافة سكانية في لبنان، حيث يقيم ما يزيد عن مئة ألف نسمة في الكيلومتر المربع الواحد، هي مجمل مساحة مخيم عين الحلوة.

هنا بيت بلال بدر، المعروف بأنه «رجل جبهة النصرة الأول» في المخيم. يكشف بدر وجود أي عابر منذ اللحظة التي يترك فيها الشارع الرئيسي في حي الطيري متجهاً نحو الزاروب حيث بيته. الكاميرات مثبتة في أكثر من زقاق والضرورات المعلنة «أمنية». لا يحتكر بدر الكاميرات وحده، فمراقبة حركة المحيط «تميّز» الأزقة التي تؤدي إلى «حرم» كل متزعم لمجموعة مسلحة، قلّ أو كثُر عددها، بايعت «داعش» أو «النصرة» أم «فاتحة على حسابها» على حد تعبير أحد الناشطين المدنيين.

الأحياء التي شهدت اغتيالات لعدد من أبنائها، كحي الزيب، على سبيل المثال لا الحصر، لها كاميراتها أيضاً. هنا تؤشر المراقبة الإلكترونية الشائعة إلى مدى الحذر والشعور بالخطر. هنا أيضاً يتحول المخيم إلى نوع من «الجزر الأمنية» وفقاً لسيطرة هذا التنظيم أو ذاك، مع اختلاط «حابل» هذه المجموعة المسلحة بـ «نابل» تلك، كما الطبيعة الجغرافية للمخيم المتشابكة بطريقة لا مثيل لها في كل مخيمات اللجوء.

التنظيمات نفسها تُسقط خطوط التماس عندما تريد تنفيذ اغتيال في عقر دار هذا او ذاك. الحذر الأمني الذي ينطق به سكان عين الحلوة لا يظهر في قوة الحياة التي لا تتوقف في طرقاته وأزقته عندما لا يحصل ما يعكر صفو المخيم. لكن طلقا ناريا واحدا في الهواء كفيل بإفراغ الشوارع في رمشة عين. لم يعد الأهالي يستطيعون تحمل المزيد من الاشتباكات المسلحة والاغتيالات التي تطبع أيامهم، والتي يتزايد ضحاياها، ومعظمهم من الأبرياء.

يرفض الأهالي تكريس الصورة النمطية للمخيم في الإعلام بوصفه «بؤرة إرهابية». يسعون جادين، عبر الحراك المدني الناشط في عين الحلوة، إلى ترتيب أولوياتهم بعيداً عن البندقية وأحكامها. البندقية متعددة الفوهات في المخيم باعتراف ناسه. تعدد واختلاف يشكل وحده فتيلاً قابلاً للاشتعال في أي لحظة، في غياب قيادة موحدة قادرة فعلياً على لجم كل من تسول له نفسه اللعب بأمن الناس، ومعه غياب الرؤية الاستراتيجية اللبنانية في التعامل مع الملف الفلسطيني، ناهيك عن تداخل مع الجوار وخصوصا الصيداوي، لكنه لا يجد تعبيرات في أكثر من لقمة الناس وأشغالهم.

تقول ذلك الاغتيالات التي لا تجد من يعاقب مرتكبيها في غالبية الأحوال، ومعها بعض جرائم القتل، ومنها قتل شخص من المخيم لزوجته وقيام أهالي المخيم بتسليمه للقوى الأمنية ليكتشفوا وجوده، بعد وقت قليل، في عداد موكب إحدى الشخصيات الأمنية في عين الحلوة.

تعلو أصوات الناشطين في المجتمع المدني مستنكرة تضخيم خطورة الوضع الأمني في المخيم. أما عندما يصل الحديث إلى التفاصيل، فتجدهم يسلمون بوجود «دكاكين» مسلحين يُحكم «أسيادها» سيطرتهم على مفاصل حياتهم «لكننا نهدئ الأمور بالمونة والحوار»، يقولون ذلك، وهم يسعون لتنظيم أنشطة تبث الحياة في الأيام الكئيبة للمخيم، وينزلون رافعين لافتات تطالب بـ«الأمن قبل الرغيف».

«المونة والحوار» لا ينفعان في طمأنة الناس. ها هو محمد بائع القهوة، ابن العشرين عاماً، يؤخر سَوق عربته من الثالثة والنصف فجراً لغاية السابعة صباحاً، في انتظار ازدحام الشارع بالمارة. يثبّت محمد مسدساً على خصره ليحمي نفسه، كما كُثُر غيره، من اغتيال مفاجئ قد يستهدفه، في أي لحظة، لا لشيء إلا لتوتير المخيم وتقسيمه والإمعان في فرز أحيائه.

وفي مقابل تأكيد الناشطين المدنيين على استمرار روح الألفة والمخيم المفتوح وعلاقات المصاهرة، ستجد بين شبان المخيم من يعجز عن التحرك إلا ضمن مساحة لا يزيد قطرها عن خمسين متراً، تحت وطأة وقوعه في كمين مسلح في مناطق محسوبة على هذا التنظيم أو ذاك.

تغيرت خريطة النفوذ العسكري والأمني في عين الحلوة مع تمدد تنظيمات إرهابية في السنتين الأخيرتين. ومع ارتفاع نبرة التحذير من التخطيط لعمل امني من داخل المخيم ضد الجيش اللبناني وأهداف لبنانية، عبر ذراعَي «داعش» عماد ياسين، و «النصرة» بلال بدر، تكتسب أحجام التنظيمات الإرهابية وأماكن سيطرتها في المخيم أهمية كبرى على أرض الواقع مقارنة مع حركة «فتح» (غير الموحدة أساساً) والممسكة بنحو خمسين في المئة من الميدان بالتنسيق مع التنظيمات الحليفة كـ «الشعبية» و «الديموقراطية».

وعليه، تمثل «فتح» في المخيم، برغم انشقاقها إلى أربع حركات (المقدح واللينو وأبو عرب والعردات)، السلطة الفلسطينية الرسمية. ويصل عديد مسلحيها على اللوائح إلى نحو 920 مسلحاً، يقول البعض أن الالتزام لا ينسحب على اكثر من ربعهم.

تلي ذلك «عصبة الأنصار» التي انسلخ عنها بعض العناصر ليؤسسوا «جند الشام»، ومع ذلك ما زالت تمون على نحو 250 مسلحاً معظمهم من الفئة الملتزمة والشابة. وبعد الأزمة السورية تمددت تنظيمات من «النصرة» إلى «داعش» إلى «الشباب المسلم» فبايعها عدد من عناصر «جند الشام» و «عصبة الأنصار»، ليبلغ عدد مسلحيها نحو 250 شخصاً مجتمعين، من دون أن ننسى دور «الحركة الإسلامية المجاهدة» الممثلة بجمال الخطاب، والتي يسبق وجودها العديد من التنظيمات المستجدة.

يقف شاب في وسط أحد شوارع عين الحلوة ويقول بالفم الملآن: «لن أعيش يوماً واحداً هنا إن تمكنت من تنظيف ملفي لدى الأمن اللبناني». هو واحد من عشرات المطلوبين في المخيم الذين تستغل أوضاعهم التنظيمات الحديثة وتهول عليهم بتصفية أمورهم مع السلطات اللبنانية لكي يبقوا رهائن تستغلهم «عسكراً» في صفوفها. الشاب مطلوب بإطلاق نار في الهواء «يعني ولا شي»، ولكنه يخاف من تقارير مخبرين مغرضة تضخم له ملفه وتبقيه سجيناً لسنوات يترك فيها عائلته بلا معيل. تطمينات القوى الأمنية والجيش اللبناني بترك الكلمة لعدالة القضاء والتساهل في تصفية أمور غير الخطيرين لا تجد من يسمعها بين ناس عين الحلوة.